التطاول في البنيان

كلما مررت بمنطقة الأبراج تذكرت أن من علامات وأشراط الساعة التطاول في البنيان والذي جاء عن الرسول صلي الله عليه وسلم: وإذا تطاول رعاء الغنم في البنيان .. وقبل ذلك تطاول رعاة البقر في البنيان، واليوم التطاول في البنيان حاصل - تقريبا - علي جميع سطح الأرض. والحديث يفيد الاخبار عما سيؤول اليه الحال وليس ذما في التطاول في البنيان لذاته إن كان هناك ما يدعو لذلك. حيث التوسع العمراني متروك أمر تقديره لظروف الحال وما تدعو اليه الحاجة من حيث انعكاسها علي الجانب الاقتصادي والدخل القومي فهو متروك أمر تقديره لشؤوننا وفق مجمل الاوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. والمدقق في مدلول ومعاني التطاول في البنيان لوجد أنها من صيغ المبالغة التي تفيد الزيادة في الشيء الموضوعة له بشكل مستمر وقصدي، فهي علي وزن تفاعل التي تفيد الفعل المستمر وطلب الزيادة في التطاول والاستطالة بحسب ما وضعت له، ومن معانيها أيضا المنافسة، فالتطاول ليس فرديا وإنما لابد هناك من أتطاول معه أو عليه - بحسب موضوعها - وهي أيضا تأتي في معني الاظهار والعلو. والتطاول لغة تأتي في معني الاستطالة علي الناس اذا هو رفع رأسه ورأي أن له عليهم فضلاً في القدر، وفي معني آخر أن يقوم قائماً ثم يتطاول في قيامه برفع رأسه ويمد قوامه للنظر الي الشيء. والغريب أنك تجد وصفاً دقيقاً لهذه الكلمة لواقع الحال رغم أنها قيلت من ألف وأربعمائة سنة، ولا نستغرب اذا كان قائلها الذي لا ينطق عن الهوي. والمشاهد أنه في العقود الاخيرة - بصرف النظر عمن بدأ قبل الآخر - نجد أن دول الخليج تتسابق في البناء الرأسي رغم المساحات الشاسعة من الأراضي فالبناء الرأسي ليس مقصوداً لذاته وإنما لدواعي الحاجة، فإذا ضاقت الأرض وكثر السكان تتجه الدول للبناء الرأسي بقصد توفير سكن للاعداد المتزايدة من الناس وهذا بسبب ضيق الرقعة من الأرض علي غرار دول ومدن مثل اليابان ونيويورك التي تحتاج الي كل كيلو متر مربع. أما اذا كانت الدولة لا تتجاوز مساحتها المشغولة عن 3% من المساحة الكلية فهل يناسبها البناء الرأسي من حيث الجدوي الاقتصادية وأثرها علي البيئة والاعتبارات السكانية الأخري، أم مجرد التفاخر والتباهي. فالبناء الأفقي يناسب أكثر البلاد الأقل سكاناً من حيث زيادة المساحة الشاغرة وبناء الحدائق والملاعب المفتوحة وتقلل من الضغط علي البيئة وأقل كلفة في الانشاء والصيانة. كما ان البناء الراسي ثبت ضرره من حيث سده للهواء وحجبه أشعة الشمس والرؤيا فتصبح الاعناق معلقة في الفضاء بدل النظر الطبيعي الذي يفتح زوايا النظر في كل الاتجاهات دون جهد يذكر. فقبل ذلك كنا نشاهد البحر ونحن في الدائري الرابع وبعد ذلك إذا كنا في مكان مرتفع، اما الآن وأمام حجب البحر بالأبراج يستحيل ذلك، كما ان تلك الابراج تثقل العين وتضغط علي الصدر من جراء ذلك فضلا عن مخاطرها الامنية وارتفاع تكلفة صيانتها واحتياجها إلي موظفين وفرق إنقاذ علي كفاءة عالية من حيث التدريب في مجال الحريق والاخلاءات في حالة نشوب كوارث لا قدر اللَّه، وهذه الاعمال بحاجة إلي حس وطني وانتماء وليس إلي أجراء فقط لا يتدخلون إلا بعد انخماد النيران ويتصاعد الدخان عندها يصرخون صرختهم: هيا بنا أو Lats go وفي هذا السياق شاهدت فيلما وكان موضوعه حريق في إحدي ناطحات السحاب وكيف واجه عمال الانقاذ صعوبات كبيرة ومخاطر في سبيل إنقاذ من علقوا في الأدوار العليا حيث ليس في الامكان اسعافهم إلا عن طريق الطائرات العمودية والتي كانت تجد صعوبة بالغة في الوصول بسبب لهب النيران ولسانها المتطاير والتي يذكيها سرعة الهواء عند الأدوار العليا. والفيلم ينتقد تلك الأبراج وطرق تصميمها، فهو يعكس الواقع ومخاطر افتراضية ممكن أن تحصل في أي وقت، وينبه إلي اننا غير مستعدين لهذه الابراج رغم توافر الامكانات من حيث الكفاءة البشرية والوسائل الحديثة المتطورة، فهو يعكس واقع الدنيا في هذا الزمان. والفيلم ليس خيالياً نسج حبكته الخيال الملهم للمؤلف، فهو صور الواقع كما هو. لذا نأمل ان يتوقف الامتداد الرأسي عند هذا الحد وان لا يتجاوزه إلي أكثر من ذلك، وان يحصر في نطاق ضيق، فليست هناك حاجة فعلية لتلك الابراج، فبالأموال المرصودة لها نستطيع بناء مشاريع كثيرة للشباب فالتوسع في المساحة العمرانية والتطويل مطلوب في البناء وليس التطاول فيه.