ومن أخلاقهم رضي الله تعالى عنهم : رحمةُ العصاة وعدمُ ازدرائهم وفداؤهم بأنفسهم حتى يودُّ أحدهم أن
جلده يقرضُ بالمقاريض ، ولا يعصي أحد منهم ربه ، وكانوا يرون كثرةَ الشفقة على العصاة أفضل من الدعاء عليهم .
وكان مطرف بن عبد الله رحمه الله تعالى يقول : من لم يجد عنده رحمة للعصاة فَليَدعُ لهم بالتوبة والمغفرة ،
فإن من أخلاق الملائكة عليهم الصلاة والسلام أنهم يستغفرون لمن في الأرض .
وكان زهير بن نعيم رحمه الله تعالى يقول : وددت ــ والله ــ أن جلدي يقرَضُ بالمقاريض ولا يعصي أحدٌ ربه تبارك و تعالى .
وكان حبيب العجمي رحمه الله تعالى إذا قرأ آية فيها أن الله غَضِب على قوم يبكي عند قراءتها ويقول : يا رب إنك قد أدخلت قلبي الرحمة لهم ، فإن شئت فاغفر لهم ، وان شئت عذبني عنهم .
قلت : ولعل مراده ــ رحمه الله ـــ (( بالرحمة التي دخلت قلبه )) فتح باب سؤالهِ ربَّه أن يرضى عنهم ، لا التحجير على الحق تعالى في غضبه عليهم ، فإن الكامل من شأنه أن يغضب لغضب الحق ، ويرضى لرضاه عز وجل .
وقد كان حبيب هذا رحمه الله معدوداً عند التابعين ممنغلبت عليه أحوال الفقراء ، وأرباب الأحوال لا يقتدي بأفعالهم عند أهل الطريق ، فإن الله تعالى أرحم بعباده من حبيب هذا ، والله أعلم .
وكان منصور بن محمد رحمه الله تعالى يرحم الرجل أن يأمره بأمر ويقول : أخاف أن يخالف أمري فيأثم ، ويقع في العقوبة وأكون أنا السبب .
وكان سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى يقول : لولا أن يأثم الناس فيّ لقلت : إن من يغتابني ويذمني أحبُّ إلي
ممن يمدحني لأن المادح لي قد يكذب .
وقد كان شفيق البلخي رحمه الله تعالى يقول : من لم يرحم الرجل السُّوءَ، فهو أسوأ حالا منه ، ومن ذُكر عنده
رجلٌ صالح فلم يجد لذكره حلاوة فهو رجل سوء .
وكان ميمون بن مهران رحمه الله تعالى إذا سمع بقوم ظلموا في بعض أقطار الأرض يمرض لأجلهم حتى يصبر يعاد كما تعاد المرضى فإذا قيل له قد فرج الله عنهم يزول مرضه لوقته
وقد كان ثابت البناني رحمه الله تعالى إذا سأله أحدٌ حاجة يصير لا يصلي صلاة إلا دعا له
في سجوده حتى تقضى حاجته .
وقد ردَّ شريك رحمه الله تعالى نملة فارسية رآها في سفرته من مقدار أربعة فراسخ رحمةً لها ، وكان رحمه الله تعالى يفتُّ الخبز للنمل ويدرُّ لهم الدقيق على بيوتهم
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يشتري العصافير الصغار التي يمسكها الأطفال ويرسلها إلى عشها ،
وكذلك الأمهات يرسلها إلى أولادها إذا صِيدت .
قلت : وليس هذا من باب تسييب السوائب وإنما الغرض رحمةُ الأم ؛ أو الولد والله أعلم .
وكان معاوية إذا سأله أحد في حاجة فقضى بعضها يحس بتخفيف الهِّم بقدرها من شدة ارتباطه بإخوانه رحمه الله تعالى .
ففتش يا أخي ؛ نفسك هل وجدت شيئا من ذلك لأجل إخوانك ، وابكِ على نفسك حيث لم يكن لك نصيبٌ في مقام الصالحين
والحمد لله رب العالمين .
منقول من كتاب
تنبيه المغترين للشعراني
مطبعة دار البشائر