ومن أخلاقهم رضي الله تعالى عنهم :عدم اهتمامهم بأمر الرزق وانشراحُ صدورهم إذا لم يبت عند أحدهم دينار ولا درهم ، وكانوا يكرهون ادِّخار قوتِ غد ، وإذا وقعَ أن أحدهم ادّخر قوت الغد ، أو الجمعة ، أو الشهر ، أو نحو ذلك كان ذلك على اسم العائلة لا على اسم نفسه تسكينا للاضطراب الذي ربما يقع في قلب العائلة ؛ إذا لم يكن عندهم شيء يأكلونه ، فربما وقع أحدهم في سوء الظن بربه عز وجل .
وقال بعضهم : ربما ادّخر القوت الذي علم من طريق كشفه أنه رزقه ، ولا يصحَّ لأحد غيره أن يتناول منه شيئا ،
ولكن قد سمعت سيدي عليَّاً الخوَّاص رحمه الله تعالى يقول : مِن كمال العارف إذا اطَّلع على أن الشيء الفلاني من رزقه أن لا يخزنه بل يصبر حتى يأتيه في الوقت الذي جعله الله تعالى فيه ؛ إيثار لفراغ اليد من الدنيا على إمساكها إذ لا فائدة للادخار .
وقد سمعت الشيخ عليا النبتيتي البصير رحمه الله تعالى يقول : من شرط من يجتمع بالخضر عليه السلام من الأولياء ، أن لا يدخر قوت غد ، فمن خبأ قوت غد لم يجتمع به ؛ ولو كان على عبادة الثقلين .قال : ومن شأن الخضر عليه السلام أن يأتي للعارفين في اليقظة وللمريدين في المنام ، لأن المريد لا يقدر على صحبته يقظةً فلذلك يأتيه مناما يعلمه الآداب التي جهلها .
وقد كان أبو عبد الله اليسري أحد رجال ( الرسالة ) رحمه الله تعالى يجتمع به يقظة ويحادثه طويلا ،ثم انقطع عنه بعد ذلك في اليقظة، وصار يأتيه في المنام، قال: فسأله عن سبب انقطاعه عنه يقظة؟ فقال له: نحن لا نصحب من يخبئ رزق غد وأنت ق د قلت لزوجتك في الوقت الفلاني: خذي هذا الدرهم فاجعليه على الرف إلى غد فقال أبو عبد الله : صحيح ذلك ، ولكني تبت إلى الله تعالى عن الادِّخار ، قال : وبعد ذلك لم يأتيه في اليقظة إلى أن مات ؛ كما أخبر عن نفسه في مرض موته رحمه الله تعالى .
وكان أويس القرني رحمه الله تعالى يقول : لا يقبل الله من عبده عملا وهو يهتم بأمر رزقه ،إذ المهتم بأمر رزقه مهتم لله عز وجل ، والمهتم لربه لا يرفع له عمل .
قلت : قد يهتم العبد لرزقه ويسعى في طلبه بكل وجه اهتماما بأمر الله تعالى بالكسب لا شكَّا في أنه يضيعه ، وعلى ضد ذلك يحمل كلام أويس رضي الله تعالى عنه
وقد قيل مرة لأبى يزيد البسطامي رحمه الله تعالى :أنت من أين تأكل وتشرب ؟. فقال : من حيث يرزق الله الذبابة و البعوضة ، أفتراه يطعمها وينسى أبا يزيد
قال : وصلى خلف إمام مدة فسأله الإمام يوما وقال له : إني أراك لا كسب لك ؛ فمن أين تأكل ؟ فقال له أبو يزيد : دعني أعيد الصلاة التي صليتها خلفك ، ثم أجيبك فإنك لا تعرف الله تعالى ، ولا يصح صلاة من لم يعرف الله سبحانه وتعالى .
قلت : وهذا لا ينافي الحديث : { صَلُّوا خَلَفَ كُلِّ بَرٍّ وفَاجِرٍ } ! لأن الحديث ورد في سدّ باب الخروج على الأمة ، وهذا في مقام الكمال للإمام
واعلم أن دليل القوم في عدم الادخار ما روى أن شخصا أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثلاث طوائر فأطعم خادمه طائرا منها ، فلما كان الغد أتته بها فقال صلى الله عليه وسلم :أَلَمْ أَنْهَكِ أن ترفعي شيئَاً لِغَدٍ فإن الله يَأتِي بِرِزقِ كُلِّ غَدٍ
فامتحن نفسك يا أخي ، بعدم ادخار شيء لغد ، فإن رأيتها مضطربة ، فقل لها : ليس لكفي مقام الصالحين نصيبٌ ،
والحمد لله رب العالمين منقول من كتاب تنبيه المغترين للشعراني
مطبعة دار البشائر