:)
عبادات نصف شعبان
في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
إعداد الدكتور محمود أحمد الزين
المقـدمــة
الحمد لله الكريم المنان، واسع الفضل والإحسان، أحمده سبحانه حمد العلماء العاملين والأولياء المقربين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله شهادة حق اليقين، وأصلي وأسلم على رسوله المصطفى الأمين وحبيبه المجتبى سيد العالمين، وخاتم النبين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الأبرار المتقين، الذين آزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه.
أما بعد :فإن الله تعالى قد تفضل على عباده الراغبين في التوجه إليه، ففتح لهم أبواب التقرب إليه، وواعدهم في جوف الليل وخواتيمه بالمناجاة، وجعل لهم صيام النهار وسيلة إلى المصافاة، ثم خص سبحانه بعض الليالي والأيام بمزيد الفضل وواسع الإكرام، منها ليلة القدر في رمضان، ومنها ليلة النصف من شعبان،
والكلام الآن في قيام ليلة النصف من شعبان، وفي صوم يوم النصف من شعبان.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله في كتابه لطائف المعارف ص 195 :( وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها وقد قيل إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية ) ، قلت : بل الأقرب من هذا القيل هو أن تكون الأحاديث فيها صحت لديهم وخالد ومكحول من أعظم الفقهاء ووجوه التابعين ،أو كانوا يرون أن المرسل حجة كما قال جماعة من أئمة الفقه كمالك وأبي حنيفة أو على الأقل كانت لديهم من العمل بالضعيف من حيث الصنعة الحديثية في فضائل الأعمال قال الإمام أحمد : ( إذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال وما لا يرفع حكماً فلا نصعب ) وقال : ( ربما أخذنا بالمرسل إذا لم يجئ خلافه ) والمرسل عند أكثر المحدثين ضعيف وعن أبي داوود فيما أحذ عن الإمام أحمد رضي الله عنه : أن الحديث ( الذي فيه رجل لم يسم يعمل به إذا لم يخالفه ما هو أثبت منه ) والراوي الذي لم يسم مجهول العدالة والضبط فهو من الضعيف .
وفي اتباع هذه الجماعة من السلف ما يدفع عن العمل كونه بدعة لأنهم مجتهدون والمجتهد مأجور بنص الحديث والله لا يأجر على البدعة وتابع المجتهد مثله لأنه اتبعه بأمر الله : " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " ، ومن قال عنه من المجتهدين إنه بدعة فهو بدعة عنده حسب اجتهاده ، وأما التابعون المكورون فقد ذهبوا إلى ( أنه يستحب إحياء ليلة نصف شعبان جماعة في المسجد وقد وافقهم من أئمة الاجتهاد إسحاق ابن راهويه وقال في إحيائها في المساجد جماعة ليس ذلك بدعة )
وكره الاجتماع عليها في المساجد جماعة من علماء الشام كالإمام الأوزاعي فقيه أهل الشام وعالمهم وهذا هو الأقرب إن شاء الله ، كذا قال ابن رجب وهو بحسب رأيه ، ولا يضر ذلك من تابع مكحولاً وموافقيه من التابعين والأئمة .
ثم قال ابن رجب : ( وقال الشافعي [ هو في أول صلاة العيد من كتاب الأم ] : بلغنا أن الدعاء يستجاب في خمس ليال : ليلة الجمعة والعيدين وأول رجب ونصف شعبان أخبرنا إبراهيم بن محمد قال : رأيت مشيخة من خيار أهل المدينة يظهرون على مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العيد فيدعون ويذكرون الله حتى تمضي ساعة من الليل ... قال الشافعي : وأنا أستحب كل ما حكيت في هذه الليالي على أن لا يكون فرضاً.
ولا يعرف للإمام أحمد كلام في ليلة النصف من شعبان ، ويتخرج في استحباب قيامها عنه روايتان من الروايتين عنه في قيام ليلتي العيد فإنه في رواية لم يستحب قيامها جماعة لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم واستحبها في رواية لفعل عبد الرحمن بن يزيد بن الأسود لذلك وهو من التابعين فكذلك قيام ليلة النصف من شعبان ) انتهى من لطائف المعارف ص196
وهي ليلة بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلها فقال ـ فيما رواه الطبراني عن معاذ بن جبل ـ : (يطلع الله عز وجل على خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن). والليل يبدأ من غروب الشمس كما قال الله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} ووقت الإفطار هو أول الليل كما هو معلوم.
والمشاحن: المعادي لأخيه المسلم وأوقات المغفرة جديرة بأن يغتنمها العبد في الصلاة والدعاء والذكر والقرآن، وهذا هو المقصود من الإخبار بفضيلة الليلة إلا أن يقوم دليل على منع تخصيصها بالقيام، كما جاء في الحديث النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بالقيام .
قيام ليلة النصف من شعبانومشروعية القيام في هذه الليلة داخلة في عموم قوله تعالى: {قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً}.
وما كان له دليل عام فهو كاف لإثبات المشروعية، ولا يجوز لأحد أن يعترض على شيء من أفراده وحالاته إلا أن يأتي بدليل خاص يستثني ذلك الفرد أو تلك الحالة، فمن استثنى بدون دليل للاستثناء فهو معارض لكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا على عكس ما ليس له دليل عام فهذا يمنع كل فرد من أفراده حتى يأتي دليله، وهنا في ليلة النصف من شعبان جاء الدليل الخاص مؤكداً للعام، ومن لم يكتف بالدليل العام، بل أصر على المطالبة بالخاص فقد ترك ما أمره الله به، فإن اتهم من اعتمد على الدليل العام بالبدعة فقد زعم أن ما شرعه الله تعالى بدعة، ويقال له حينئذٍ: إن حديث (كل بدعة ضلالة) عام، فهات دليلاً خاصاً على أن قيام نصف شعبان وصيامه بدعة، إذا كان الدليل العام لا يكفي حسب زعمك، وإذا كان في ليلة النصف تلك الفضيلة، والليلة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر فينبغي للعبد أن يغتنمها بالعبادة صلاة أو دعاء أو تسبيحاً أو تلاوة قرآن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبر أمته بفضيلة جوف الليل وآخره حث أمته على قيام الليل بالصلاة والقرآن والدعاء وكل أنواع الذكر ـ كما هو معلوم مشهور ـ وكذلك كل وقت فيه فضيلة زائدة على غيره يستحب للعبد أن يغتنمه بذلك، إلا أن يأتي دليل خاص يمنع منه كما جاء النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بالقيام ويومها بالصيام.
والجماعة في كل ذلك مشروعة، وإن لم تكن واجبة، روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما
(أنه صلى صلاة الليل مقتدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقيام الليل أوله أوآخره كله خير، وإن كان آخره أفضل من أوله.
وتلاوة القرآن جماعة مشروعة في كل حال، روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده).
والتعبد بتلاوة القرآن في الليل فيه أحاديث عامة كثيرة، ويغني عنها في هذا الموجز قول الله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} وطاعة هذا الأمر تحصل بأن يقرأ واحد ويستمع الباقون كما يحدث ذلك في الصلاة، ويجوز أن يُقرأ القرآن قراءة جماعية بحيث يقرؤون كلهم بصوت واحد؛ لأن ذلك داخل في عموم أمر الجماعة بالقراءة، وقد جاء في حديث صلاة الليل في رمضان عند البخاري أنه (كان الرجل يصلي لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط) وكلهم يقرؤون القرآن، فإذا جاز أن يقرأ كل فرد لنفسه في آن واحد مع ما فيه من تشويش بعضهم على بعض، فجوازه إذا كانوا يقرؤون بصوت واحد أولى؛ لأنه يخلو من التشويش مع دخوله في عموم أمر الجماعة بالقراءة، بل صح ما يدل صراحة على جواز ذلك، وهو (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يجعلوا شعارهم في بعض المعارك ”حم لا ينصرون“
و [حم] آية من القرآن، أمروا أن يرددوها معاً شعاراً لهم في الحرب، والحديث صريح في مشروعية القراءة الجماعية.
وكذلك جاء في القرآن الأمر بالذكر مطلقاً دون قيود بجمع ولا إفراد، فلا يحل لأحد أن يستثني منه حالة إلا بدليل خاص ، قال تعالى : {ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً} وهذا خطاب للجماعة، فكيف تكون الجماعة فيه غير مشروعة.
وروى الإمام مسلم (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه)، والجماعة تشملها تلك الأحيان ، وقد ذكر ابن قدامة في المغني 3/295 أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه قال : لا بأس بالتعريف إنما هو ذكر ودعاء ومعنى ذلك أنه لا بأس به لأن فيه أمرين مشروعين الذكر والدعاء ، والتعريف هو اجتماع الناس في المساجد على الذكر والدعاء يوم عرفة عشية .
والاجتماع ليلة النصف من شعبان مثله ذكر ودعاء وقرآن وصلاة ليس فيها ما يُنكَر ولكن المنكرين يفرضون نفسهم أو اجتهاد أئمتهم على الناس وينكرون اتباع الأئمة الآخرين ولو كان أولئك الأئمة من كبار فقهاء السلف الصالح المرضي عنهم .
فإن قالوا: لا نقبل إلا بإجماع السلف قيل لهم : هل أجمع السلف على إنكار الاجتماع ليلة النصف من شعبان في المساجد وهل طردوا المجتمعين من بيوت الله .