عيد الأضحى

في هذا الشهر من كل عام هجري يَحتفل المسلمون بعيد الأضحى المُبارك، ويجتمع الناس في نواديهم، ويلتقون بمواطنيهم، ناسين متاعب الحياة وصعابها، تاركين بُؤسها وشقاءها، ويتبادلون التهنئة بما أُتيح لهم من الخير، وما أسبغ الله عليهم من نعماء.
وإذا كان في الناس قوم يَنْظُرون إلى ظَاهر الحياة فيتخذون من العيد فُرصة للراحة والهدوء، ويُقْبِلون على المَرح والزينة، فإنَّ النفوس العَامِرَة بالإيمان تتخذ من الأعياد فترة للتفكير، فترسل نظرة إلى ماضٍ ذهب، وتلقي نظرة أخرى إلى مستقبل قريب أو بعيد.
ولا يرضى عاقل أن يترك الزمن يمرُّ من غير أن يكون له عبرة تنفعه في حاضره وتُنير له الطريق إلى مستقبله، وإنما ينتفع من الأوقات العاقلون ويستفيد منها أصحاب البصيرة والفكر. والله تعالى يُصرِّف الآيات لقوم يعقلون.
والعبرة في عيد الأضحى أشدُّ وأظهر، وأقوى وأكبر، فهو عيد الحج، وفي أيام الحج تتجه قلوب المسلمين وتشخص بصائرهم إلى تلك الأرض الطاهرة التي يُؤدُّون فيها هذه الشعائر، ويرون ذلك النور الذي أشرق على الإنسانية من بقاع طيبة فغمر الأرض ضياء، وملأ جوانبها سَنَاءً، وهنالك تستلهم النفوس من وحي ذلك الجهاد السلمي الطويل أول دروسه، وتنقش على صفحاتها أصدق آياته، فيعلم الناس أنَّهم يستطيعون أن يبلغوا بالحكمة والموعظة الحسنة ما لا يبلغون بالعنف وسفك الدماء، ويدركون أنَّ الإقناع ومُبادلة الحجَّة خير وأبقى، وأفضل للإنسانيَّة وأجدى. وأن الإنسان ينال بقوَّة الحق وحسن البيان أكثر مما يَنَال بالعنف والطغيان، ثم يتعلمون درساً آخر أعمق في النفوس أثراً وأبلغ خطراً هو أنَّ الحياة في سبيل المُثُل العُليا والفناء في إسعاد الناس أنفع من الحياة في سبيل أغراض زائلة، ومنافع باطلة، وزخرف لا يدوم، ورياء لا يزيد في رزق مقسوم.

في هذا اليوم العظيم يذكر المسلمون إنَّ هناك إخواناً لهم في جوار بيت الله الحرام ترتفع أصواتهم بالتهليل والتكبير، قد عَنَت لله وجوههم، وخشعت لعظمته قلوبهم، ويذكرون أنَّهم يؤدُّون فريضة من أجلِّ الفرائض، قد تركوا ديارَهم وأهليهم لأدائها متحسبين وجه الله طالبين رضاه؛ ويعلمون أن الله كتبها عليهم نعمة منه وفضلاً، فهي تطهير لنفوسهم وتذكير لعقولهم، وجمع لما تفرق من شتاتهم، فما أكثر ما يصرف الناس عن الله ويصرفهم عن دينه؛ ويملؤهم صلفاً وخيلاء وغروراً وكبرياء ما يتمتعون به من عزٍّ وجَاه أو قوة ونفوذ، فإذا هم يَسْتَعْلون في الأرض استعلاءً، ويزدهون فيها بَطَراً ورياء، ناسين ضعفهم أمام قوة الله، وفقرهم أمام غناه؛ وإنَّ في الحج لعبرةً، وإنَّ فيه لتبصرة وذكرى لكل عبد مُنيب.

وقد كان الحج أكبر مظاهر هذه الدعوة وأسمى مجاليها إذ يتقابل الحجيج والفقير بجانب الغني، والضعيف بجوار القوي، لا يعرف أحدهما من أمر أخيه إلا أنَّه مسلم يكافئه، وأخ في الإنسانية يساويه ويعادله، ثم تتلاقى الطوائف وقد خلت من شارات وطنيَّة وسمات إقليمية، نسوا كل ما يذكرهم بالفرقة أو ينبه أذهانهم إلى اختلاف الديار، وهم مُقبلون على ذكر الله وعبادته، ليس بينهم جامعة إلا الإسلام، ولا رابطة إلا الحب والوئام، يتمثلون المَفَاخِرَ الإسلاميَّة وما شاد أسلافهم للدنيا من صروح باسقات، يظللهم شهر حرام، وتقلهم أرض حرام، ثم هم يعلمون أنَّ هذه التجربة تستمر، وذلك الاجتماع يتكرر، حتى يقوى رباط المسلمين وتتوثَّق عُرَاهم...
فأي نعمة أحق أن نحتفل لها من هذه النعمة؟ وأي فضل أجدى علينا من هذا الفضل الكبير.
وإذا كان الناس في الحج يطوفون ويسعون، ويقفون بعرفات ويجتمعون في صعيد واحد ليروا ما في الإسلام من بينات، فإنَّ الله قد كتب على المسلمين جميعاً أن يحتفلوا بهذا اليوم ويتَّخذوه عيداً، وطلب إليهم أن يخرجوا إلى صلاتهم صفوفاً مُتلاحقة وطوائف مُتسابقة، يرفعون أصواتهم بكلماتهم المُدوِّيَة في الآفاق، النافذة إلى السبع الطباق: الله أكبر، فيوحي هذا النداء المُجلجل إلى الناس أنَّهم يجتمعون في هذا اليوم بقلوبهم، ليخرج كل إنسان من كبريائه، فلا يذكر أحد أنَّه أسمى من أحد، ولا يتخيل غني أنَّه خير من فقير، ولا عظيم أنَّه أكبر من صغير، ولا عالم أنه أحجى من جاهل، ولا رئيس أنَّه فوق المرءوسين، وينظر بعضهم إلى بعض كأن خواطرهم واحدة، ونزعاتهم طاهرة، فقدت كلمة الكبرياء بينهم روحها، ووجدت كلمة التواضع معناها ومَغْزَاها، ويشعرون بالنفس المُجْتَمِعة الصافية قد أعلنت الحرب على النفس المُنفردة الحَاقدة الشارِدَة، ويفهمون من هذا أنَّ الإسلام أراد للمسلمين أن يكون لهم شعار جامع يعلنونه في كل عيد ليطهر قلوبهم، ويطرد الحسد والغل من نفوسهم، ويجمعهم على التآخي والصفاء، والتراحم والوفاء.

والأعياد تعلم الناس كيف يتسع روح الإخاء ويمتد حتى يحس أصحاب العقيدة الواحدة كأنَّهم في دار جامعة تتحقق فيها الوحدة بمعناها العملي، وتظهر فضيلة الإخلاص مُعلنة للجميع، ويهدي الإنسان إلى أخيه الإنسان هدايا القلوب المملوءة بالمودَّة، ويخيل للناظرين أن ذلك هو إطلاق روح الأسرة في الشعوب ليشعر المُحتفلون بالعيد كأنهم في وطن واحد، تجمعهم رغبات واحدة، ويشملهم مقصد واحد؛ وتلك هي وحدة الإسلام التي جاء بها الكتاب المُبين، وجمع عليها الرسول صلى الله عليه وسلم شتات المسلمين.
وفي صبيحة هذه الأيام الزاهرة يلتقي الكبار والصغار في معنى الفرح بالحياة المُتقدِّمة النَّاجحة السائرة في طريقها، حتى كأنك بالصغار السذج الذين يرسلون النفس على سجيتها يُعلِّمون الكبار كيف ينبغي أن تعمل الصفات الإنسانيَّة في الجموع عمل الحليف لا عمل المُنابذ، وعمل المحب الوامق لا عمل العدو الكاشح، فيتلقى الكبار هذا الدرس واعية قلوبهم سَعيدة مَشَاعرهم، وهنيئاً لهؤلاء إذا انتفعوا بهذا كله واتخذوا من هذه العبر أمثلة للفكرة العابدة، والإرادة الواحدة، واستقاموا على نهج السبيل، وأقبلوا على الخير يفعلونه، ليدركوا أجر العاملين الذين اتخذوا من آداب الإسلام نبراساً، ومن أوامره ونواهيه مقياساً.

في العيد الأكبر معنى أكبر: هو تفهيم الإنسان ألا يكون لنفسه، وأن ثراءه لا ينبغي أن يكون مَقْصوراً عليه، وأنَّه إذا انفرد فلن يهنأ له عيشٌ، ولن يستريحَ له بال، فلا يستطيع إنسان أن ينسلخ عن الناس، ولا يمكنه مهما أوتي أن يَحْيَا حياة طيبة في عُزْلة، ولا مَنَاص للغني أن يَأخذ بيد الفقير، وللقوي أن يَرْفع الضعيف حتى يؤدي كل امرئ عملاً، ولا يتعطَّل فرد عن المُشَاركة في مَطَالب الحياة عجزاً أو ضعفاً، وتسود الرحمة والإخاء، ويشعر المعوزون برحمة المُوسِرين الأغنياء...
لهذا شَرَع الله في هذا العيد نَوعاً من البذل، وضرباً من ضروب السماحة، لا يقتصر معناه على إشباع جائع وإطعام القانع والمُعْترِّ، ولكنه ينزع الغل والحسد من قلب البائس الفقير، ويطلق لسانه بالشكر والثناء على الغني الموسع، ويحمله على أن يتمنى لو دامت لأهل النعماء نعماؤهم، وزاد لأرباب المال مالهم.