:D
عندما تستغرق القلوب في أعمال الطاعة ، وتعيش حقائق التقوى والخشوع ، تحظى بدرجة القرب من الله – عز وجل – وتترقى في مراتب المعرفة ، فتلهم الرشاد ، وتنطق بالصواب وتجري ينابيع الحكمة على الألسنة والجوارح ، ويبصر أصحابها الأشياء على حقيقتها ، لا يخدعهم زيف ، ولا يبهرهم بريق .
وأصحاب هذه القلوب هم : صفوة الله من عباده ، علمهم وأرشدهم ورباهم على عينه ، فغدوا منارات ترشد إلى الهدى بلسان الحال وفصيح المقال ، وتوجه السائرين إلى أهدى سبيل ، وأقوم طريق ، على قدم النبوة يسيرون ، وبهدي الكتاب المبين يسترشدون [أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ] {الزُّمر:18} .
ويحفل تاريخ أسلافنا بهذا الصنف المميز من الرجال ، لا سيما القرون الأولى : قرون الخير و البركة .
ومن تاريخ ابن عساكر ننقل بتصرف محاورة جرت بين تاجر وعابد ، تضمنت الكثير من المعاني الإيمانية ، والقيم الوجدانية ، مع التركيز على تهذيب القلوب ، وتربية الأنفس . وقد جعلناها على شكل حوار بينهما . داعين الله تعالى أن يرزق النفع بها ، فإننا في زمن أحوج ما نكون فيه إلى معرفة وعمل ما يلين القلوب ، وينقذها من وطأة المادة التي طغت على كل شئ .
حدث أحمد بن مسلمة ، بن جبلة ، بن مسلمة ، بن أبي أوفى ، بن خارجة ، بن حمزة بن النعمان ، صاحب رسول الله - صلى الله عليه و سلم - عن السليط بن سبيع العامري : أنه قال : كنت تاجراً ، وكان أكثر تجارتي في البحر ، فركبت البحر إلى بلاد الصين ، فأتيت بها على – عابد – قد اعتزل في صومعته ، فأردت أن أعرف حقيقـة حاله ، وما هو عليه ، فبادرته سائلاً :
السليط : من تعبد أيها العابد ؟
العابد : أعبد الذي خلقني وخلقك .
السليط : أ فعظيم هو ؟
العابد : نعم يا فتى ، عظيم في المنزلة ، قد حوت عظمته كل شئ ، لا يشبه خلقه ، ولا يشبهه
منهم شيء .
السليط : فأين الله من محل قلوب العارفين ؟
العابد : يا فتى ، إن محل قلوب العارفين لا يعزب عن الله بعد إذ علم أنها إليه مشتاقة.
السليط : فما الذي قطع بالخلق عن الله ؟
العابد : حب الدنيا ، لأنه أصل المعاصي ، ومنه تفجرت . ولترك الدنيا ثلاث منازل.
الأولى : منزلة ترك الحرام من القول والفعل ، والحرص على طاعة المولى في كل ما جل
و دق ، حتى تطيع الله فيمن عصاه فيك . فعند ذلك تتفجر ينابيع الحكمة من قلبك . وأن تَدَعَ
الهوى بنور الإيمان .
الثانية : منزلة ترك الفضول من القول ، حتى ترحم من ظلمك ، وتصل من قطعك ، وتعطي من
حرمك ، فعند ذلـك تقاد بحلاوة طاعة الله – عز وجل - ، وترتبط بحبل الطاعة .
الثالثة : منزلة ترك التعلق بالرياسة ، واختيار التواضع والذلة ، حتى تصير مثل مملوك لسيده ، واعلم أنه بإمراج النظر تطلعت النفس إلى الشهوات ، فأظلم القلب ، ولم ير جميلاً فيرغب فيه ، ولا قبيحاً فيأنف منه ، وبضبط النظر ذلت النفس عن فضول الشهوات ، فانفتح القلب ، فأبصر جميلاً يرغب فيه ، وانكشف العقل فأبصر .
السليط : فما العقل ؟
العابد : أوله المعرفة ، وفرعه العلم ، وثمرته النية .
السليط : متى يجد العبد حلاوة الإيمان والأنس بالله ؟
العابد : إذا صفا الود ، وجادت المعاملة .
السليط : متى يصفو الود ؟
العابد : إذا اجتمعت الهموم في الطاعة .
السليط : متى تَخْلُصُ المعاملة ؟
العابد : إذا اجتمعت الهموم فصارت واحدة .
السليط : عظني وأوجز ؟
العابد : لا يراك الله حيث يكره .
السليط : زدني من الشرح لأفهم ؟
العابد : كُلْ حلالاً وارقد حيث شئت .
السليط : أراك قد تحليت بالوحدة ؟
العابد : لو ذقت طعم الوحدة لاستوحشت إليها من نفسك . الوحدة رأس العبادة . ومؤنسها الفكرة .
وليس بالوحدة شدة . إنها أُنس المريدين .
السليط : فما أشد ذلك عليك ؟
العابد : تواتر الرياح العواصف في الليل الشاتي .
السليط : أتخاف أن تسقط فتموت ؟
العابد : وهل العيش إلا في السقوط وما أشبهه من أسباب الموت ؟
السليط : فلم يشتد ذلك عليك إذاً ؟
العابد : أما والله إذا اشتدت عليَّ الريح وعصفت ذكرت عند ذلك عصوف الخلق في الموقف
مقبلين ومدبرين . لا يدرون ما يراد بهم ، حتى يحكم الله بين عباده ، وهو خير الحاكمين
، فيا طول موقفاه بين يدي القوي العزيز !
السليط : بم يقطع الطريق إلى الآخرة ؟
العابد : بالسهر الدائم ، والظمأ في الهواجر .
السليط : فأين طريق الراحة ؟
العابد : في خلاف الهوى .
السليط : متى يجد العبد طعم الراحة ؟
العابد : عند أول قدم يضعها في الجنة .
السليط : أراك تخليت عن الدنيا وقنعت بهذه الصومعة ؟
العابد : يا فتى ، إنه من مشى على الأرض عثر ، فقررت فرار الأكياس من فخ الدنيا . وخفت
اللصوص على رحالي ، فتعلقت بهذه الصومعة ، وتحصنت بمن في السماء من فتنة من
في الأرض ، لأنهم يسرقون العقول ، فخفت أن يسرقوا عقلي ، وذلك أن القلب إذا صافي
صديقه ضاقت به الأرض ، وأنا تفكرت في الدنيا ، وتفكرت في الآخرة وقرب الأجل ،
فأحببت الرحيل إلى رب لم يزل .
السليط : فمن أين تأكل ؟
العابد : من زرع لم أتول بذاره ، من بيدر اللطيف الخبير . يا فتى إن الذي خلق الرحى هو الذي
يأتيها بالطحين – وأشار إلي رحى ضرسه - .
السليط : كيف حالك في هذه الدنيا ؟
العابد : حالي هي : حال من يريد سفراً بعيداً ، بلا أهبة ولا زاد ، ويسكن قبراً بلا مؤنس ، ويقف
بين يدي حكم عدل . فكيف يكون حاله ! ثم أرخى عينيه ، فبكى .
لسليط : ما يبكيك ؟
العابد : يا فتى ، حقاً أقول لك : ذكرت يوماً من أَجَلي ، لم يَحْسُنْ فيه عملي ، فأبكاني قِّلة الزاد ،
وطولُ السفر ، وقرب المعاد ، وعقبة هبوط إلى جنة أو نار .
السليط : لو تحولت من هذه الصومعة وخالطتنا ، فإن عندنا عُبَّاداً يخالطوننا ويعاشروننا !
العابد : هيهات يا فتى ، كم من مُتَعَبَّدٍ لله بلسانه ، معاند له بقلبه ، يقاد إلى عذاب السعير ، زاهد
في الظاهر ، راغب في الباطن ، حسن القول ، خبيث المعاملة ، مشارك لأبناء الدنيا ، لا
يبعد ولا يفر من جوار إبليس .
السليط : استغفر الله !
العابد : يا فتى ، سرعة اللسان بالاستغفار من غير بلوغ : توبة الكذابين ، ولو علم اللسان مما
يستغفر لجف في الحنك .
يا فتى ، إن الدنيا منذ ساكنها الموت لم تَقَرَّ فيها عين . كلما تزوجت الدنيا طلقها الموت ،
فالدنيا من الموت طالقة ، لم تقض عدتها بعد ، فمثلها كمثل الحية : ليِّن مسها ، والسم في
جوفها ، يحذرها رجال ذوو عقول ، ويهوي إليها الصبيان لقلة عقولهم ، فتصرعهم مرارة
عيشها وكدر صفوها .
يا فتى ، كم من طالب للدنيا لا ينال حاجته ، ولا يبلغ أمله ، ولا يدركها . وكم مدرك لها
، أدرك فيها مرارة عيشها وكدر صفوها . واعلم يا فتى ، أن شدة الحساب ومعاينة
الأهوال – مع الحمل الثقيل – سيثقل على المسرفين ، بما عملوا ومرحوا في الأرض
بغير ما أمروا به .
يا فتى ، إن اجتناب المحرمات رأس العبادة ، وسيعلم المتقون - بما صبروا على شح
الدنيا وظمأ الهواجر ، والقيام على الأقدام في ظلمة الدجى ، وإجاعة الأكباد ، وعدم تنعم
الأجساد – ماذا أعد لهم .
وذلك : أن الله عدل في قضائه ، صادق في مقاله ، لا يضيع أجر المحسنين .
السليط : في كثير من الأوقات أريد لنفسي شيئاً من المطعم والمشرب ، فلا يكفيني ، حتى تتوق
نفسي إلى أكثر من ذلك ! فهل لديك ما تقوله في هذا ؟
العابد : يا فتى ، إن نواصي العباد بيد الله – عز وجل – وقبضته ، فلا يجوزون من ذلك إلى
غيره ، وقد قسم أرزاقهم ، وفرغ من آجالهم .
يا فتى ، إن تدبير الله للعبد في مطعمه ومشربه أولى من تدبيره لنفسه ، فعليه بالسعي ، ثم
القناعة .
السليط : لقد ضربت فأوجعت ، وشددت فأوثقت .
العابد : بل أطعمت فأشبعت ، ووعظت فنفعت .
السليط : بم يستعان على الزهد في الدنيا ؟
العابد : بتقصير الأمل ، والمداومة على العمل ، وذكر الموت .
السليط : متى ترحل الدنيا عن القلب ، وتسكن الحكمة الصدر ؟ فلما سمع مقالتي صاح صيحة ثم
خر مغشياً عليه . فلما أفاق قال : ماذا قلت ؟ فأعدت عليه مقالتي .
العابد : لا والله لا ترحل الدنيا عن القلب ، وأنت منكب على القراريط والفلوس ، تتلذذ بالنظر إلى
كثرتها ، وتستعين بكسب الحرام على جمعها ، ثم بعدها تحب أن يرى الخلق مكانك ،
ويعرفوا قدرك . واعلم : أنه لا ينال منازل الصديقين ، ودرجات المقربين ، ويعرف في
الملكوت الأعلى ، وتسكن الحكمة صدره ، إلا إذا كان حراً ، غير مملوك لزوجة ، ولا
أجيراً لولد .
السليط : ما أول قيادة القلب إلى الزهد ، والرضا بالمقسوم ؟
العابد : بإماتة الحرص ، وبذبح حَنْجَرةِ المطعم ، فإن كثرة المطعم تميت القلب ، كما يموت
البدن .
يا فتى ، طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد لم يره ، واعلم : أنه كما لا يجوز عليكم
الزيف ، فإن كلامكم لا يجوز إلا بنور الإخلاص .
يا فتى ، كم من صلاة قد زخرفتموها بآية من كتاب الله ، كما تزخرف الفضة السوداء
بالفضة البيضاء ، لتخدع الناظرين ، وما لم تُزَيَّن الصلاةُ بالخشوع والإخلاص فهي
خدِاج .
يا فتى ، إن العبد إذا انطوى على ترك الآثام ، أتاه القنوع ، وألهم الصواب.
يا فتى ، إن أهل قيام الليل في ليلهم أشد لذة من أهل اللهو في لهوهم .
يا فتى ، همة العاقل : النجاة والهرب ، وهمة الأحمق : اللهو والطرب .
يا فتى ، إذا أضمر العبد على الزهد في الدنيا ، تعلق قلبه بالملكوت الأعلى . ومن نظر
إلى الدنيا بعين القلة ، يكون نظره إلى ما فيه عِبْرة ، وسكوتُه عن القول مغنم .
السليط : ما أول الدرجات التي يصل بعدها المريدون ؟
العابد : أول الدرجات : ردُّ المظالم إلى أهلها ، وخفةُ الظهر من التبعات ، فإن العبد لا تُقْضى له
حاجة وعليه مظلمة أو تبعة .
السليط : ما أفضل الدرجات ؟
العابد : الصبر على البلاء ، والشكر على الرخاء ، وليس فوق الرضا درجة ، وهى درجة
المقربين.
السليط : ثم رأيته توجه بالخطاب إلى نفسه يوبخها : ويحك يا نفس ، مالك تفرين من الحـق ،
والموت يقفوك ، فأين تفرين ممن أنت إليه ماضية ، وهو إليك محسن ؟! إلهي ، إنني
أرضيت عبادك بسخطك ، فلا تكلني إليهم ، بقوة من عندك . الهي وسيدي ، إليك انقطع
المريدون في ظلمة الدجى ، وجوف الأسحار ، وأدلجوا يرجون رحمتك ، وسعة مغفرتك
اللهم أسكني في درجة المقربين ، واحشرني في زمرة المتقين العارفين ، يا مالك يوم
الدين.
* دروس وعبر : 1. يحتاج كل إنسان أن يخلو بنفسه فترة من الزمن ، يستعرض مراحل مسيرته الحياتية ، ليرى محصلة أعماله ، ويقيم جهده ونشاطه ، فيزداد سعياً في مجال الخير ، ويضيق على نفسه مسالك الهوى ، وثغرات الشيطان ، ويترقى بها في مدارج الكمال ، حتى يسلس قيادها ، ويلين عنادها ، وتُحِسُّ بحلاوة الطاعة ، وشرف العبودية ، فتنشط إلى العمل ، وتستمرئ فعل الخيرات ، وتنفر مما سواه . فالخلوة فترة إعداد ، وتصحيح مسار ، ومراجعة حساب ، وتدارك تقصير ، وتزويد النفس بشحنة إيمانية ، تجعلها أقدر على العطاء ، ومجابهة أحداث الحياة ، وتحمل شدائدها ، واجتياز عقباتها. ولحكمة أرادها الله – تعالى – سبقت ليالي حراء نزول الوحي بالرسالة العظمى . فجدير بالدعاة أن يكون لهم مع أنفسهم خلوات تعينهم على إتقان العمل ، وتلافي الأخطاء .
2. مما يسهل مهمة الداعية ، ويعينه على أداء واجبه ، والانطلاق بدعوته : صفاء قلبه ، وخُلُوُّه من هموم الدنيا ، والتعلق بفضولها ، والميل إلى زخرفها وزينتها . ولا يعني هذا : ترك عمارتها ، والضرب في الأرض لكسب القوت ، وإغناء من يعول . وأن لا يكون له من الموارد ما يصون وجهه ، ويسد حاجته . وإنما المطلوب : أن لا يكون الكسب هَمَّه المقلق ، وشغله الشاغل ، الذي يستنفذ معظم جهده ، ويستغرق جل وقته . وليحرص – في مجال كسبه – على تحري الكسب الحلال ، والحذر كل الحذر من الحرام ، وليكن جاداً في اجتناب المشتبهات من الأمور ، فلا يقع فيها ، لأنها أقرب طريق إلى أكل الحرام . ويترقى الداعية إلى منزلة ترك الفضول والكماليات مما هو مباح . ثم يسمو إلى منزلة أعلى ، فيختار التواضع مسلكاً ، والذلة إلى الله خُلُقاً ، ويجعل بينه وبين حب المناصب والألقاب والرياسة حاجزاً كثيفاً . لأنها نعمت المرضعة ، وبئست الفاطمة . إنه متى فعل هذا : استنار عقله ، وأبصر قلبه ، وصحبه التوفيق ، وَكُتِبَ له القبول.
3. كل ما في الكون يذكر الإنسان بالله – تعالى – وما مظاهر الطبيعة ، وتقلبات أحوالها إلا نذر يأخذ منها المؤمن العظة والاعتبار . فظلمة الليل وضوء النهار وتعاقبهما ، رمز للحركة والسكون في هذه الحياة ، وإشارة لتنبيه الإنسان إلى أنه إنما خلق ليكدح ويجد ، ويواكب أحداث الحياة وتطوراتها ، ويكون فاعلاً ومؤثراً فيها ، لا يخالجه شك أن أمامه هجعة طويلة ، مسكنه فيها بيت ضيق ، منفرداً فيه عن الأهل والأحباب ، والأصدقاء والأصحاب ، في قبر مظلم ، لا أنيس له إلا ما قدم بين يديه من صالح العمل . وقصفُ الرعود ، ولمعُ البروق ، وزمجرةُ الريح ، كلها منبهات إلى يوم الفزع الأكبر ، يوم تنشق القبور عن ساكنيها ، ويصدرون أشتاتاً ، ليُرَوْا أعمالهم بين يدي العزيز العليم ، في ذلة وخضوع ، ينتظرون فصل الخطاب .
4. ما أكثر الأشياء التي يظن الإنسان أنه إذا حققها ، أو حقق بعضها ينال قسطاً من الراحة ، أو الراحة كلها . والناظر بعين الحقيقة يدرك أن الدنيا دار عناء وتعب ، وما هي بدار راحة أو استقرار ، والمؤمن فيها كَمَاشٍ على الشوك ، أو المتقلب على الجمر ، لا يشعر بالراحة ، ولا يُحِسَّ طعمها إلا عندما يضع أولَ قدم في الجنة . هناك يضمن أنه قد حل دار الخلود ، التي خلت من المتاعب والأكدار ، وصفت مشاربها ، وطاب جناها ، وفاز أهلها ، وسعدوا في ظلالها ، واستقر بهم المقام [لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ] {الحجر:48} فمن ابتغى الراحة التامة ، فليكن همه : طلب الجنة ، وليصرف جهده وهمته إلى ما يبلغه رضوان ربه .
5. المؤمن دائم العِبْرة ، غزير العَبْرة ، كثير الحسرة ، يُحزنه أن يمر يوم من حياته لا يُرفع له فيه عمل صالح ، لأنه يعلم أن أمامه سفراً طويلاً ، وعقبة كؤوداً ، يهبط بعدها إلى جنة أو نار ، فلا بد من زاد يبلغ الغاية ، ويعين على قطع الطريق .
6. إن للدنيا على القلوب سلطاناً ، وللقلوب ميلاً نحو زينتها ، وربما فُتِنَتْ بزهرتها وبهرجها ، وأخلدت إلى متاعها . ولا شئ يعين المرء على الزهد والقناعة مثلُ تقصير الأمل ، وإدامةُ العمل ، والإكثار من ذكر هادم اللذات . ولن ترحل الدنيا عن قلب مُنْكبٍّ على جمع القراريط والفلوس ، تسعده زيادتها ، ويفرحه النظر إليها .
وأول درجة الزهد في الدنيا : إماته الحرص ، وذبح الطمع ، وترك الشهوة واجتناب الآثام ، والإقبال على تحصيل ما يبقى أجره ، وينفع في الآخرة ذخره .
7. من أراد الترقي في درجات الكمال فمفتاح طريقه : رد المظالم ، والتطهر من التبعات . فلن تُقْضَى للعبد حاجةٌ مادامت عليه مَظْلَمَةٌ ، أو في عنقه تَبِعَةٌ . وإن أعلى الدرجات : الصبرُ على البلاء ، والشكرُ في الرخاء ، وما فوق الرضا درجة لمبتغي القرب وطالبِ الوِصال .