:)
من أساليب التربية النبوية: الالتفات إلى الأهم
يكون الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ جالساً بين أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ يعلمهم ويربيهم ،
يحادثهم ويحاورهم ، يباسطهم ويوادهم . . فيهم الألمعي الذكي ، وفيهم البسيط الغر ، وفيهم الصغير
العمر القليل الخبرة ، وفيهم ذو السن الذي حنكته التجارب وعركته الحياة ، فدرى كنهها وذاق حلوها مرها . .
ويسأله أحدهم سؤالاً ليس له جواب ، إما لأنه من علوم الغيب التي استأثر الله سبحانه نفسه بها
فلا يطلع عليه أحداً ، وإما أن الجواب ليس له فائدة تذكر ، والمعرفة به لا تضيف جديداً ،
وهنا يستغل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ السؤال ويبني عليه قضية جديدة جديرة بالنظر
والتفكير والتأمل ، جديرة بالعمل فيما ينتج عنها ، وهذا هو الأهم .
فمن ذلك ما رواه أنس ـ رضي الله عنه ـ أن أعرابياً سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
فقال : متى الساعة يا رسول الله ؟
فقال له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ماذا أعددت لها ؟
قال : حب الله والرسول .
فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنت مع من أحببت.
فالأعرابي – كما رأينا - يسأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أمر غيبي لا يعرفه
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا ينتج عن معرفته أمر إيجابي ، ولا عن الجهل به أمر سلبي ،
وهنا نجد أسلوب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ ويسميه البلاغيون :
أسلوب الحكيم أو الالتفات إلى الأهم ـ فيجيب عن سؤاله بسؤال : ماذا أعددت لها ؟
فالمهم في معرفة يوم القيامة الاستعداد لها ، والعمل الدؤوب الناصح ، وعندها يقر الأعرابي
أنه قليل العمل ، ضعيف الهمة ، إلا أن في قلبه حباً عظيماً لله سبحانه ولرسوله الكريم . .
جواب ـ إن صدق فيه ـ عظيم ، فهذا جوهر الإيمان ، وحقيقة الإسلام ، وهنا يقرر النبي
ـ صلى الله عليه وسلم ـ قاعدة نورانية ، ضياؤها يشع ويملأ النفوس أملاً ، والقلوب سعادة ،
والجوانح خشوعاً : أنت مع من أحببت ، وهل هناك هدف أسمى وأعظم من هذا الهدف ؟!!
قال أنس ـ في رواية أخرى ـ فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام أشد مما فرحوا يومئذ.
ومن هذا القبيل ( أسلوب الحكيم والالتفات إلى الأهم ) ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ
أن امرأة أتت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصبي .
فقالت : ادع له ، فقد دفنت ثلاثة .
فقال : احتظرتِ بحظار شديد من نار .
فهذه امرأة – كما قرأنا - فقدت ثلاثة من أطفالها ، فلما ولد الرابع جاءت به النبي ـ
صلى الله عليه وسلم ـ كي يدعو له بطول العمر. . ودعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
مستجاب ، ويحق لها ذلك ، فهي أم ، وما أدراك من الأم ؟! فدعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
بما أرادت ، لكنه نبهها والمسلمين إلى فضل من الله عظيم كتبه ـ تعالى ـ لمن يفقد أبناءه :
إنه النجاة من النار . ومن هذا القبيل أيضاً : ما رواه عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال :
جاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يريد الجهاد فقال له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
أحي والداك ؟
قال : نعم .
قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ففيهما فجاهد .
لفتة عظيمة من القلب الرحيم ، والمعلم العظيم ، ودرس رائع من أستاذ الأساتيذ ،
ومعلم الناس الخير .فالجهاد ذروة سنام الإسلام ـ لا شك في ذلك ولا ريب ـ لكن رضاء الوالدين والقيام
عليهما ، وتلبية حاجاتهما جهاد وأي جهاد !!
إن قيامك على أمرهما ، وإرضاءك لهما جهاد عظيم فلا تـُفـَوّته أيها المسلم .
وفي رواية أخرى عن رجل جاء يبايع على الهجرة ، وترك أبويه يبكيان ،
فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما.
وأسلوب الحكيم قلّ من يستعمله ، فهو يحتاج إلى سرعة البديهة ، وذكاء ، وحسن في الأداء.
عثمان قدري مكانسي