(رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)
ومن أخلاقهم رضي الله تعالى عنهم
عدم الاعتناء ببناء الدور ونحوها ، ثم إن وقع أن أحدهم بنى داراً اقتصر منها على ما يدفع الضرورة من غير زخرفه ، وذلك لعدم وجود
ما يكفى ذلك من الحلال ، وعدمِ طول أملهم فلا يدعهم قِصَرُ أملهم يفعلون ذلك .
وقد بنى سيدي أحمد الزاهد رحمه الله تعالى
جامعه وداره بطين وطوب وسقف ذلك بالجريد ،
فعلم أن كل من ادعى الصلاح و بنى البناء المحكم فرحا
بالدنيا فهو كاذب في دعواه ، لا سيما من أدعى الانقطاع إلى الله تعالى فإن ذلك لا يليق به بحال ،
إلاّ إن كان يرصد ذلك على جهات برّ وصدقة ونحو ذلك
فيكون الباعث له على إحكام البناء دوامُ الصدقة
بعد موته ؛ كما وقع لسيدي أبو مدين ،
وسيدي أبى العباس الغُمري و أضرابهما رحمهما الله تعالى فلا حرج على مثل ذلك .
وقد مرَّ سيدي الشيخ عبد القادر الجيلي رحمه الله على شخص يبني داراً ويُحكمها فأنشد يقول :
أَتَبني بناءَ الخالدينَ وإنَّمـــــا... مقامك فيها – لو عقلتَ -قليل
لقد كانَ في ظل الأراكِ كِفايةٌ...لمن كان يوماً يقتفيـــه رحيـــــــل
وممن أدركته على هذا القدم شيخنا سيدي عليَّ الخواص رحمه الله تعالى : كان يعتب على الفقير إذا رآه يبني داراَ ويقول له : إن الذي تصرفه على هذا
البناء لا تلحق تسكن به .
ولما بنى أخي أبو العباس رحمه الله
له بيتا في جامع البشير صرَف عليه سبع مئة دينار ، فزجره الشيخ وقال له : لو سكنت بأجرة لكفاك العُشرُ مما صرفته في هذا البناء ؛ وكنت تتصدق بالباقي . ثم ماتَ أخي أبو العباس بعد سبع سنين أو نحو ذلك .
وكان الشيخ رحمه الله تعالى يقول :
إذا عَمَّر الفقير بيتاً من أموال إخوانه فمن الأولى له نصحُهم في عدم صرفهم مالهم في ذلك ، وإرشادهم إلى ما يكون أثقل في ميزانهم يوم القيامة لو أنهم سألوه في ذلك ، فكيف لو فعلوا ذلك عن سؤال منه تعريضاً أو تصريحاً
وقد درج السلف الصالح
كلُّهم على عدم الحرص
وطول الأمل ، حتى إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بلغه
أن أسامة بن زيد رضي الله عنهما اشترى
ولده إلى شهر ، فصار صلى الله عليه وسلم يقول
(( ألاَ تعجبون مِن أُسَامَةَ المُشتَرِي إلى شهر ! واللهِ ؛ إنَّ أُسَامَةَ لَطَوِيلُ الأَمَل )) ،
ثم قال صلى الله عليه وسلم :
{ واللهِ مَا رَفعتُ قدمي وظَننت أني أَضَعُهَا حتَّى أُقبضَ ،
وَلا فَتَحثُ عَيني و ظَنَنتُ أَنِّي أُغمِضُهَا حَتَّى أُقبَضَ ،
ولا لَقَمتُ لُقمةً وظَنَنتُ أنَّي أُسيغُهَا حثَّى أُقبَضَ }
وفي رواية : " حَتَّى أُغَصَّ بالموت " .
وكان يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى يقول :
من جاع وقصر أمله لم
يجد الشيطان محلا من قلبه .
وكان سفيان الثوري رحمه الله تعالى
يقول : يا ابن آدم ، إنما أنت أيامٌ ،
فكل يوم يمضي فقد مضى بعضك .
وقد أقاموا الصلاة مرَّة بحضرة معروف
الكرخي رحمه الله تعالى فقدموا
فقيراً ليصلي بهم فأبى ، وقال :
أخاف أن أموتَ في الصلاة فأشوش
على الناس صلاتهم ، فعزموا عليه ؛ فقال :
بشرط أن لا أصلي بكم صلاة أخرى .
فقال له معروف عند ذلك : تأخر يا أخي ؛ فإنك رجل مُخَلِّط ؛ تخاف أوَّلاً أنك تموت في الصلاة ، ثم تحدثك نفسك أنك تعيش إلى صلاة أخرى !! ثم قَدَّم غيره فصلى بالناس .
وكان داود الطائي رحمه الله تعالى يقول : مِن لازِمِ مَن طال أمله أن ينسى العمل غالبا ، ويسوّف بالتوبة .
وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول : من شأن قصير الأمل أن يظن في كل شيء أكله أنه لا يخرج من بطنه ؛ إلا على يد الغاسل بعد موته وأن ما جمعه لا ينتفع به إلاَّ غيره ، ومتى ظنَّ خلاف ذلك فهو طويل الأمل .
وكان أبو عثمان النَّهديُّ رحمه الله تعالى يقول : إن عمري الآن مئة وثلاثون سنة ، فما من شيء إلاَّ وقد تغيَّر عليَّ إلاَّ أملي ، فإني أجده كما هو فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وكان يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى يقول : الدنيا
مطلَّقَة الزهَّاد لا تنقضي عِدَّتها منهم أبدا ، وكلَّ من طلق الدنيا تزوجته الأخرى على الفور
وقد سمعت سيدي عليَّ الخواص رحمه الله تعالى يقول : لا يَسلم إنسان منا من طول أَمَله ، لكن كلٌّ بمقامه ، فأعلاهم من كان أمله نفسا واحدا ، فطول الأمل من رحمة الله لكل أحد ، ولولاه ما هَنَّأ أحداَ منهم العيش .
وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول : مكتوبٌ على ظهر الحوت في البحر، وعلى ظهر النواة من التمر : هذا رزق فلان بن فلان لا يأكله غيره ، ومع ذلك فالحريص يجتهد ويخاف على رزقه أن يأخذه غيره .
فاعلم ذلك يا أخي ؛
والحمد لله رب العالمين .
منقول من كتاب
تنبيه المغترين للشعراني
مطبعة دار البشائر