عدم إسرافهم في الحلال إذا وجدوه ، وذلك لأن الحلال غريب في كل زمان بحسب تفاوت أهله في المقام ، فربما كان حلالا عند قوم وغير حلال عند قوم آخرين .
وقد كان السلف يقدمون كسب الدراهم الحلال على سائر مهماتهم وذلك لأنهم من أبناء الآخرة بيقين ، والأعمال الأخروية الخالصة لا تقع على يدي من أكل حراما أو
شُبُهات ، فإن من أكل حراما نشأ عنه فعلُ الحرام ، ومن أكل شبهة نشأ عنه فعلُ الشبهة حتى لو أراد من أكل الحرام أن يطيع الله لما قَدر على ذلك
وكان يونس بن عبيد رحمه الله تعالى يقول : ما ثَمَّ اليوم أقلَّ من درهم طيب ، ولو وجدناه لاستشفينا به مرضانا .
وكان سفيان الثوري رحمه الله تعالى يقول : دِيْن الرجل حيث رغيفه من حَلِّ وان أهل بيت يوجد على مائدتهم الآن رغيفٌ من حِل لغرباء في هذا الزمان
وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول : كسب الحلال أشد على المؤمن من نقل جبل إلى جبل .
وهل كان وهيب بن الورد رحمه الله تعالى يقول : إن لم ير العبد الحلال في زمانه كالميتة للمضطر وإلا هلك .
وفد سمع الحسن بن علي رضي الله عنهما شخصا يقول : اللهم ارزقني حلالا صافيا ، فقال له : ما هذا سل ربك رزقا لا يعذبك عليه فإن الحلال الصافي إنما هو رزق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
وكان إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى كثيرا ما يعمل إلى آخر النهار فإذا أعطوه أجرته نظر إليها ،
وقال لأصحابه : إني أخاف أن أكون لم أبذل قُوَّتي كلها التي طلبها مني صاحب الزرع ، ثم يتركها ويذهب طاويا تلك الليلة ؛ وكان يرى الحضور مع الله تعالى في عمل الحرفة شرطاً للحِل وكل شيء عمله بلا حضور لا يأخذ له أجره .
وكان معر بن كِدَام رحمه الله تعالى يقول : لا أعرف اليوم بقي من الحلال إلا ما يشربه الرجل من الدِّجلة أو النيل بكََفِّه .
قال : وطلب رجل الحلال فما صفا له إلا الحشيشُ الذي على حافات الأنهار فصار يأكل منه حتى اخضر جلده ثلاثين سنة ، فإذا هو بهاتف يقول له : الآن قد صفا لك أكل الحلال ، وخلصت من الحرام .
وكان إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى يقول : رأيت عابدا يقوم إلى الصلاة بثقل ، فنظرت فإذا هو من عدم صفاء مأكله ، ولو أنه أكل حلالا لم يحصل له ثقل .
وكان سفيان الثوري رحمه الله إذا ذهب إلى وليمة أخذ معه رغيفا يأكل منه ، فإذا قال له صاحب الوليمة : هل لا تأكل من خبزي يا سيدي !؟ يقول له : إنك تدري خبزك من أين هو ؟ وأنا أدري خبزي من أين هو ، فكلُّ واحد يأكل مما يدري .
قلت : وممن أدركته من أصحاب هذا المقام سيدي الشيخ محمد بن عنان كان رحمه الله تعالى إذا دُعي إلى وليمة يأخذ معه رغيفا يأكل منه إذا نُصِب السَِّمَاطُ .
وقد سأل سفيان الثوري عن فضل
الصف الأول ؟ فقال :
انظر رغيفك من أين هو فكله ، وصَلِّ في أيّ صف شئت ولا حرج عليك .
وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول : لا يقبل الله صلاة العبد وفي جوفه شيء من الحرام
وكان السري السقطي رحمه الله تعالى يقول : النجاة في ثلاث ، سبيل الهدى ، وكمال التقى ، وطيب الغذاء .
وكان وهيب بن الورد رحمه الله يقول : لو صمتَ وصليت حتى صرتَ مثل هذه السارية ما ينفعك ذلك إلا بعد أن تنظر ما دخل جوفك .
واعلم أن دليل القوم في هذا الخلق قوله تعالى
(كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً ))
وهو خطابٌ للرسل . وقد صرَّح في الحديث
(( بأن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين )) .
ومن أدلتهم أيضا ما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لا يَكْتَسِبُ عَبْدٌ مالاً مِن حَرَامٍ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ ، وَلاَ يَتَصَدَّقُ منهُ فَيُؤْجَرُ عَلَيهِ
قال : وامتنع بعضهم من الأكل مما يدخل أيدي بني آدم ، ثم ذهب إلى البرّية يأكل من حشيشها فنودي في سره هب إنك تتورَّع من اليوم فما تفعل في القوة التي اكتسبتها
فانظر ، يا أخي إلى طعامك في هذا الزمان ، وعليك بالجوع المُفرط ، وإياك أن تأكل من طعام أمير أو مباشر ، أو قاض فضلا عن أطعمة
الظلمة و المَكَّاسين من غير تفتيش فإنك تهلك في
دينك ولو كان على رأسه عمامة صوف
وجبة ولك عذبة . فافهم ؟
والحمد لله رب العالمين .
منقول من كتاب
تنبيه المغترين
للشعراني