:)
المقدمة:على القمة الشامخة نرى نسـاء طاهرات عفيفات من خير القرون، سلفاً صالحاً ننهـل من ينابيعهن الدافقة
ومن مــدد النور المحمدى و الفيوضات النورانية الرحمانية ليتسلسل ذلك الضياء إلى الذين يلونهم ثم الذين
يلونهم حتى يرث الله الأرض ومن عليها 0
منهن السيدة رابعة العدوية :كانت من بين النساء امرأة متعففة محتشمة صينة دينـة أراد الله لها أن تكون مثلا يحتذي للعابدات
الذاكرات الصالحات المتبتلات وغرز الله في قلبها حبا وحنانا وعاطفة وإحساساً مرهفا فامتزجت كل
هذه المشاعر بالإيمان الحق والعقل الــوافــر فسمـت الـروح متعلقة في فضاءات الحـب الإلهي
تلك هـي شـهيدة العشق الإلهي قال تعالى : ( والذين آمنوا أشد حباً لله.. ) البقرة ( 165) فقد أحفتها
العناية وأحاطت بها لطائف القدرة وأشرقت على قلبها أنوار المعرفة واليقين ببركة معرفتها وحبها لله
فرابعة كانت تعبد ربها لذاته المقدسة ذات الجمال والجلال والكمال، الذي سجد له السواد وسكن له الفؤاد
وليس طمعا فى جنة ولا خوفا من نار وتخشى أن تكون كأجير السوء أن أُعطي رضي وإن مُنع غضب
مولدها ونشأتها :ولدت رابعة العدوية في البصرة سنة 100 هـ على الأرجح وكنيتها أم الخير وهى رابعة أخواتها الثلاث
نشأت في بيت فقير ولما بلغت سن العاشرة مات أبوها ثم لحقته الأم ( تذكرة الأولياء ) فريد الدين عطار،
فلازمها الفقر واليتم والجوع ولكن !
إذا العناية لاحظتك عيونها ... نـم فالمخاوف كلهن أمان
وحين فقدت الأم والأب والأخوات ، عاشت في رعاية من لا يضل ولا ينسى وأكرِم وأنعِم بها من رعاية
فإن الله جل جلاله أحاطها بكرمه وحفظه وصونه فنشأت عابده زاهده تقية نقية وظلت طوال أيام حياتها
مشغولة مشغوفة ناسكة ولهانة وطامحة في حب من لا يغفل ولا تأخذه سنةٌ ولا نوم 0
تصوفها :كان شيخ البصرة آن ذاك الإمام العالم والرجل الصالح عبد الواحد بن زيد ، فحبب الله لها ارتياد المساجد
ومجالس الذكر ، فكانت تسمع درسه و تحضر حلقات الذكر والوعظ ، فنهلت من علوم الصوفية وغرقت
فى الحب الإلهي والعشق السرمدي الذي لا ينقطع و لا يعتريه الجفاف والخور والفتور و لم تستلذ من
دنيانا بمأكل و لا مشرب ولم يغمض لها جفن فهي دوما مع الله فإن صمتها فكر وكلامها ذكر ،
اجتمع في مجلس ذكرها كثير من المريدين والتلاميذ يستمعون لوعظها وكلامها في الزهد وحكمتها ،
منهم ، سفيان الثوري ، شقيق البلخي وغيرهم خلق كثير ، ( دائرة المعارف الإسلامية ) ولمجلسٌ
اجتمع فيه أكابر الصالحين لعمري والله من أفضل المجالس وأنفعها 0
في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول تعالى أنا عند ظن عبدى بي وأنا معه . . ) فكان ظنها فى الله وبالله ولله قوياً ناصعاً وراسخاً
قال الذهبي فى السير ( 8/ 241) لقد كانت رابعة العدوية زاهدة عابدة خاشعة
أنصت معي أخي الكريم إلى الشعر الصوفى الخالص الذي يفيض بالنفحات الروحية والصور الإيمانية
والحب الإلهي الذي تغلغل فى نفس السيدة رابعة :
يا حبيب القلب ما لي ســــواك ... فارحم اليوم مذنباً أتــــــــاك
يا رجائي وراحتي و سرورى ... قد أبى القلب أن يحب سواك
ومن فرط عشقها قالت :
وا رحمتا للعاشقين قلوبهم في تيه ميدان المحبة هائمة
قامت قيامة عشقهم فنفوسهم أبداً على قدم التذلل قائمة
إما إلى جنات وصل دائمٍ أو نار صدٍ للقلوب ملازمة
زهد السيدة الجليلة :سألها يوماً الشيخ صالح بن بشر المري البصري المعروف بالزهد ، كيف أضع قدمي في الطريق يا رابعة فقالت : أن تفر الى الله من خلقه ، وأن تصغي جوارحك وحواسك لاستقبال أسرار الملكوت وأن يكون غناك في قربه وإملاقك في البعد عنه، فقال لها صالح تتحدثين عن الغنى والإملاق ، أليس السعي إلى الرزق من الإيمان ؟ فردت رابعة نعم بل هو من مكفرات الذنوب على أن ترى أنك أخذت الرزق من الرازق ، فقال صالح شيخ جهل وامرأة علمت 0
روى صاحب (كشف المحجوب ) قال جاء أمير البصرة الى رابعة العدوية ليعودها وقد حمل إليها أموالاً
كثيرة على أن تستعين بها في حياتها فأجهشت بالبكاء ورفعت رأسها إلى السماء وقالت هو يعلم أني
أستحيي أن أسأله الدنيا وهو يملكها فكيف آخذها ممن لم يملكها وردت أمير البصرة 0
من صفات رابعة العدوية : قالت عنها خادمتها عبدة بنت أبي شوال : كانت رابعة تصلى الليل كله فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر ، فكنت أسمعها تقول وهي فزعة يا نفس كم تنامين يوشك أن تنامي نومةً لا تفوقين منها إلا يوم النشور .وقالت عنها : كانت رابعة بين أربعة أحوال، مرة يغلب عليها الهيام ومرة يحملها القبض واليأس وتارة البسط والرجاء وأحياناً الخوف والخشوع وكانت تحب أن تخلوا بنفسها وتتهجد وتنشد أبياتها ، التي درجت على ألسنة الناس :
فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر ... وبينى وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين ... وكل الذي فوق التراب تراب
وفاة رابعة العدوية : قال تعالى جل شأنه : ( كل من عليها فان ) 26 الرحمن0 لم يك عشقها في فُرُشٍ بطائنها من إستبرق ولا جنى الجنتين دان وإنما وجه ربك ذو الجلال والإكرام ، فقد كبرت سنها ونحل جسمها وخارت قواها ورحمها كل من رآها وكانت تقول إن العلة التي أشكوها من نوع لا يستطيع الطبيب أن يشفيه ودواؤها الوحيد هو رؤية الله ، وبالرغم من اعتلال جسمها فكان لسانها رطباً بذكر الله و في شغل دائم بالصلاة والصوم 0 قالت عنها خادمتها عبدة بنت أبي شوال لما حضرت رابعة الوفاة دعتني رابعة وقالت: يا عبدة لاتؤذيني بموتي أحدا ، ولُفيني في جُبتي هذه قالت: فكفناها في تلك الجبة وخمار صوف كانت تلبسه 0 على الأرجح توفيت عام 180هـ في مدينة القدس ( صفة الصفوة ) والله أعلم
الخاتمة : هذه رابعة العدوية رضي الله عنها ، سلطانة العاشقين و إكسير المحبين كانت شخصية لا يمكن لأحد تناسيها أو نسيانها ومثالاً حياً للمرأة العابدة الزاهدة الصالحة ،والتاريخ الإسلامى يزخر بالكثير مـن مثيلاتها وعلى رأسهن السيدة نفيسة الطاهرة وآمنة الرملية وأم الأبلج وميمونة السوداء ، أخيراً وليس آخراً أحمد الله على أن وفقني لوضع كلمة صغيرة عن أمى الرؤوم السيدة رابعة وإن كنت لست من أهل هذا الفن ولكن أحببت أن يأتي ذكرها بطعم ولون ورائحة روض الرياحين الزكية