التردد على الآثار النبوية والمشاهد الدينية والتبرك بزيارتها
كتب في هذا الموضوع الشيخ ابن تيمية كلاماً نفيساً جداً ، ونحن ننقل منه هذه الفوائد المهمة .
فأما مقامات الأنبياء والصالحين وهي الأمكنة التي قاموا عليها أو أقاموا أو عبدوا الله سبحانه
وتعالى فيها لكنهم لم يتخذوها مساجد فالذي بلغني في ذلك قولان عن العلماء المشهورين :
أحدهما : النهي عن ذلك وكراهته ، وأنه لا يستحب قصد بقعة للعبادة إلا أن يكون قصدها للعبادة مما جاء به الشرع
مثل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصدها للعبادة كما قصد الصلاة في مقام إبراهيم وكما كان يتحرى الصلاة عند الاستطوانة. وكما يقصد المساجد للصلاة ويقصد الصف الأول ونحو ذلك .
والقول الثاني : أنه لا بأس باليسير من ذلك كما نقل عن ابن عمر أنه كان يتحرى قصد المواضع التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد سلكها اتفاقاً لا قصداً .
قال سندي الخواتيمي : سألنا أبا عبد الله عن الرجل يأتي هذه المشاهد يذهب إليها كيف ترى ذلك ؟
قال : أما على حديث ابن أم مكتوم أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصلي في بيته حتى يتخذ ذلك مصلى ،وعلى ما كان يفعله ابن عمر يتتبع مواضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأثره فليس بذلك بأس أن يأتي الرجل المشاهد إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا وأكثروا فيه .وكذلك نقل عنه أحمد بن القاسم :أنه سئل عن الرجل يأتي هذه المشاهد التي بالمدينة المنورة وغيرها يذهب إليها ؟
فقال : أماعلى حديث ابن أم مكتوم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم :أن يأتيه فيصلي في بيته حتى يتخذه مسجداً أو على ما كان يفعل ابن عمر : كان يتتبع مواضع سير النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أنه رؤي يصب في موضع ماء ، فسئل عن ذلك ،فقال :كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصب هاهنا ماء.
قال : أما على هذا فلا بأس . قال : ورخص فيه ثم قال : ولكن قد أفرط الناس جداً وأكثروا في هذا المعنى ،فذكر قبر الحسين وما يفعل الناس عنده .قال الشيخ ابن تيمية : فقد فصل أبو عبد الله في المشاهد وهي الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء والصالحين من غير أن تكون مساجد لهم كمواضع بالمدينة بين القليل الذي لا يتخذونه عيداً أو الكثير الذي يتخذونه عيداً كما تقدم وهذا التفصيل جمع فيه بين الآثار وأقوال الصحابة ،فإنه قد روى البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة قال : رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق ويصلي فيها ، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها وأنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في تلك الأمكنة ، قال موسى : وحدثني نافع أن ابن عمر كان يصلي في تلك الأمكنة .فهذا ما رخص فيه أحمد رضي الله عنه .وأما ماكرهه فروى سعيد بن منصور في سننه :
حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن عمر رضي الله عنه قال :خرجنا معه في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر بـ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ و لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ في الثانية ،فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد فقال : ما هذا ؟ قالوا مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال :هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم : اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً من عرضت له منكم الصلاة فيه فليصل ومن لم تعرض له الصلاة فليمض فقد كره عمر رضي الله عنه اتخاذ مصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عيداً ، وبين أن أهل الكتاب إنما هلكوا بمثل هذا .
قال الشيخ ابن تيمية : قد اختلف العلماء رضي الله عنهم في إتيان المشاهد .فقال محمد بن وضاح : كان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار التي بالمدينة ما عدا قباء وأحداً ،ودخل سفيان الثوري بيت المقدس وصلى فيه، ولم يتتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها .فهؤلاء كرهوها مطلقاً لحديث عمر رضي الله عنه هذا ولأن ذلك يشبه الصلاة عند المقابر إذ هو ذريعة إلى اتخاذها أعياداً وإلى التشبه بأهل الكتاب ، ولأن ما فعله ابن عمرلم يوافقه عليه أحد من الصحابة ، فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين ولا عن غيرهم من المهاجرين والأنصار أن أحداً منهم كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال :
واستحب آخرون من العلماء المتأخرين إتيانها وذكر طائفة من المصنفين من أصحابنا وغيرهم في المناسك استحباب زيارة هذه المشاهد وعدوا منها مواضع وسموها .
وأما أحمد : فرخص منها فيما جاء به الأثر من ذلك إلا إذا اتخذت عيداً مثل أن تنتاب لذلك ويجتمع عندها في وقت معلوم كما يرخص في صلاة النساء في المساجد جماعات وإن كانت بيوتهن خيراً لهن إلا إذا تبرجن ، وجمع بذلك بين الآثار واحتج بحديث ابن أم مكتوم .
والحاصل الظاهر من كلام الإمام أحمد أنه يجيزالتردد على الآثار والمشاهد والأماكن المنسوبة إلى الأنبياء والصالحين ويرى أن تتبع ذلك والاعتناء به له أصل في السنة النبوية وهو ليس ببدعة ولا ضلالة فضلاً عن أن يكون شركاً أو كفراً ، لكنه انتقد الإفراط في ذلك والاشتغال به بصورة زائدة .هذه خلاصة رأيه رضي الله تعالى عنه .أما الشيخ ابن تيمية فقد فهم كلام أحمد التفصيل في هذا الأمر بين القليل والكثير ، وفهم أن الكثير من ذلك هو المكروه عند أحمد وحكم عليه بأنه مكروه فقط ولم يزد على القول بالكراهة شيئاً وقد بين ابن تيمية القدر الكثير الذي يصير به هذا التردد والتتبع للآثار النبوية مكروهاً ، وهوأن تتخذ تلك الأماكن والآثار عيداً يجتمعون عليه عندها ويحتفلون بها في أوقات مخصوصة .ويفهم من كلام الشيخ ابن تيمية أيضأً أن الآثار التي ثبت أن الأنبياء اتخذوها مسجداً أوصلوا فيها فإنها خارجة عن هذا التفصيل ،وينبني عليه أن الأماكن والآثار التي ثبت أن الأنبياء صلوا فيها لها ميزة على غيرها وأنها تقصد للعبادة والصلاة ، وهذا صريح كلامه حين قال في أول البحث :لكنهم لم يتخذوها مساجد وحين قال : فقد فصل أبو عبد الله في المشاهد وهي الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء والصالحين من غير أن تكون مساجد لهم كمواضع بالمدينة بين القليل الذي لا يتخذونه عيداً والكثير الذي يتخذونه عيداً كما تقدم
معنى العيد المنهي عنه في الحديث :وقد حدد الشيخ ابن تيمية معنى العيد المنهي عنه في الحديث بقوله صلى الله عليه وآله وسلم لاتتخذوا قبري عيداً فقال :وفي الجملة هذا الذي يفعل عند هذه القبور هو بعينه الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله :لاتتخذوا قبري عيداً ..فإن اعتياد قصد المكان المعين في وقت معين عائداً بعود السنة أو الشهرأو الأسبوع هو بعينه معنى العيد ثم ينهى عن دق ذلك وجله وهذا هو الذي تقدم عن الإمام أحمد إنكاره قال : وقد أفرط الناس في هذا جداً وأكثروا ،وذكر ما يفعل عند قبر الحسين .وقال في موضع آخر : فأما اتخاذ قبورهم أعياداً فهو مما حرمه الله ورسوله واعتياد قصد هذه القبور في وقت معين والاجتماع العام عندها في وقت معين هو اتخاذها عيداً كما تقدم ولا أعلم بين المسلمين من أهل العلم في ذلك خلافاً ولا يغتر بكثرة العادات الفاسدة ، فإن هذا من التشبه بأهل الكتاب الذي أخبرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كائن في هذه الأمة
عقيدة المؤلف : الدكتورمحمد علوي المالكي الحسنيوهذا الذي ذكره الشيخ ابن تيمية هو عين ما نعتقده في هذا الموضوع بفضل الله سبحانه وتعالى وهو ما ندعو إليه ونحث الناس عليه في كل مجال وفي كل مناسبة إننا ننهاهم أن يتخذوا قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الآثار والمشاهد عيداً وننهاهم أن يخصوها بشيء من أنواع العبادات التي لا يجوز صرفها إلا لله سبحانه وتعالى ،وننهاهم أن يخصصوا لها يوماً يجتمعون فيه ويحتفلون به ،هذا ما نعتقده وندين الله به ، لا من اليوم ولا من الأمس بل خلف عن سلف وأبناء عن آباء ،بفضل الله سبحانه وتعالى .فالواجب علينا أن نلاحظ بعين الاعتبار هذه الأقوال والتحليلات العلمية الدقيقة التي تدل على حسن الفهم في تذوق العلم
وأن لا نبادر إلى تكفير المسلمين أو الحكم عليهم بالضلال والبدعة لمجرد تتبعهم للآثار النبوية واهتمامهم بالمقامات والمشاهد والأماكن المنسوبة إلى الأنبياء والصالحين ، وأن نحسن الظن بهم وأن نعلم أن المقصود الأصلي هو الله سبحانه وتعالى ، وهذه كلها أسباب ووسائل تزيد في النفس الإيمان والاعتبار والادكار والارتباط بأصحابها وتاريخهم ، وهم القدوة الحسنة للبشرمع ما في ذلك من التعرض للنفحات والبركات المتنـزلة في أماكن الخير ومواطن الهدى لأن الأماكن التي كانت معمورة بأهل الخير والصلاح لا تزال هي محل الرضا والرضوان ،والأماكن التي كانت معمورة بأهل الشر والفساد هي محل السخط والغضب ،ولذلك أمر صلى الله عليه وآله أصحابه أن لا يدخلوا ديار ثمود إلا وهم باكون ، وأن لا يشربوا من مائها ، بل أمرهم أن يهريقوا ما أخذوه ، وأن لا يأكلوا ما طبخوه بها ،
وكذلك أمرهم بالإسراع في المشي إذا دخلوا وادي محسر المعروف بوادي النار .
مفاهيم يجب أن تصحح
لسليل بيت العلم والتقى
خادم العلم الشريف بالبلد الحرام
الدكتور محمد علوي المالكي الحسني