من أساليب التربية في القرآن الكريم: التلطُّف والاعتذار
يستطيع الإنسان أن يأخذ باللطف ما لا يستطيع أخذه بالعنفوان . وبالكلمة الطيبة ، والابتسامة اللطيفة ،
يصل الإنسان إلى مأربه .
والله سبحانه وتعالى خلق سيدنا محمداً عليه الصلاة والسلام ليناً هيناً مع الناس ليكون نموذجاً حسناً حياً للدعاة ، ولو كان عصبياً سريع الغضب ما ألفوه وتبعوه (( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ . . . ))
وأمره سبحانه أن يقبل من الناس ما عفا وتيسَّر من أخلاقهم ، وأن يحضَّ على فعل ما هو حسن ، وأن يتناسى جفاء الجاهلين ذوي القلوب القاسية (( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) ))
بل إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يستغفر للمنافقين ، وظلَّ على هذا إلى أن نهاه ربه عن ذلك ، حين قال سبحانه : (( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) ))
وأمره سبحانه وتعالى أن يتلطف في الدعوة إلى الله سبحانه : (( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )). فالإنسان عقل وكتلة مشاعر ، يحسن بالداعية أن يراعيها ويدخل إلى أصحابها من الباب المفتوح والطريق السهلة .
ـ وحين شعر إخوة يوسف بضعف موقفهم ، حين استُخْرِجَتِ السقايةُ من رحل أخيه وأخذه ـ ظاهرياً ـ رقيقاً بشرع يعقوب ، فالسارق يُستعبد ، جاءوه بطرف منكسر ، ولطف حزين ، فقالوا يستعطفونه ويتزلفون إليه : ((. . . يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ )).
وتذكروا حين رأوا أباهم عمي من شدة حزنه على يوسف من قبل ، وبنيامين من بعد ، إلا أن أعادوا الكرة ودخلوا على يوسف مستعطفين بما وصلت إليه حال أبيهم وبفقرهم (( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) ))
وحين سقط في أيديهم وانكشفوا أمام أبيهم ، وكانوا قد انكشفوا أمام أخيهم ، فسامحهم ، قالوا لأبيهم معتذرين : ((. . . . يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ))
فنسي الأب أو تناسى إساءتهم - والأب عطوف رحيم بأبنائه - سامحهم فوراً فـ ((قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) ))
ـ وهذا سيدنا موسى يقابل الرجل الصالح ، الذي آتاه الله تعالى رحمة من عنده ، وعلّمه من لدنه علماً . فيسأله أن يرافقه ليتعلّم منه ما علمه الله ، فيشترط عليه الرجل الصالح أن لا يسأله عن شيء حتى يخبره هو به ، فلما ركبا في السفينة وخرقها أنكر عليه موسى فعلته ، إذ كيف يبادي خيرهم بشرٍّ ؟ !! ، فذكّره الرجل الصالح بما اشترط فقال موسى معتذراً : ( لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا )، فالاعتذار تعبير عما في النفس من شعور بالذنب ، والكريم يغفر للكريم .
ـ ودخل رجل على الخليفة هارون الرشيد ينصحه ، ويذكره بالآخرة ، فكان في نصحه عنفٌ ، فقال له هارون : لقد أرسل الله تعالى موسى وهارون ـ وهما خير منك ـ إلى فرعون ، وهو شرٌّ مني ، فقال لهما : (( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) )) فخجل الرجل من هارون الرشيد وانقلب الواعظ موعوظاً ، والموعوظ واعظاً . . فالقول الهين اللين يفعل الكثير ويفتح مغاليق القلوب .
ـ وحين عاد موسى إلى قومه بعد أن كلّمه ربـُّه تعالى وجد بعضهم يعبدون العجل من دون الله ، ولم يستطع هارون أن يثنيهم ، فلم يكن قوياً ذا بأس كموسى فالتفت موسى إلى أخيه غاضباً ممسكاً بلحيته ورأسه و (( قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) )) فناداه : (( يا ابن أم )) متلطفاً معتذراً ، فسكت عنه غضب موسى ، ثم حرّق العجل ونسفه نسفاً .
ـ وهذه بلقيس زوجة سليمان عليه السلام يأتيها الهدهد برسالة منه يأمرها أن تسلم وتأتيه خاضعة ، فاستشارت أهل الرأي وأصحاب الحلّ والعقد من أهل مملكتها ، فقالوا لها : نحن أقوياء ، وأولو بأس شديد ، ونحن رهن أمرك ، فافعلي ما تشائين ، فما كان منها ـ وهي الذكية الأريبة ـ إلا أن قالت : (( قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) )) وما إرسال الهدية إلا نوع من اللطف وحسن التصرف .
ـ وأخيراً نقف على اعتذار أصحاب الجنة الذين بخلوا على الفقراء فدّمرها الله تعالى جزاء وفاقاً فلما علم أصحابها أنهم أخطأوا لجأوا إلى الله سبحانه وتعالى يعتذرون وينيبون (( قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) )).
وهكذا نجد صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين يقول : ( إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا يُنزع من شيء إلا شانه ) .
وفي قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ) .
وفي قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ، وما لا يعطي على سواه )
الدكتور عثمان قدري مكانسي