الحلمُ والأناة
هو سيد الأخلاق يرفع صاحبه، ويعلي شأنه ، يقوي منزلته ويوقّر شخصه ويُسمع كلمته ورأيه، وإذا كان العفو أحد أسماء الله الحسنى فإن الحليم من أسمائه الحسنى أيضاً، وقديماً قيل:
ثلاثٌ من كن فيه استكمل معاني النضج ولمّ معظم عناصر الحلم: من إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، ومن إذا رضي لم يخرجه رضاه إلى الظلم والباطل ، ومن إذا قدر لم يتناول ماليس له.
ومن أمثلة الرجال الذين شهد التاريخ بحلمهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الذي كان يقول: (( أول عوض الحلم عن حلمه أن الناس أنصاره على الجاهل)) وماأدري حقيقة إن كان الناس مازالوا كذلك أم لا..؟!
ولما سأل معاوية خالد بن المعمر كيف حبك لعلي بن أبي طالب؟ قال (( أحبه لثلاث خصال)) على حلمه إذا غضب ، وعلى صدقه إذا قال، وعلى وفائه إذا وعد)) ومن الذين شهد التاريخ بحلمهم أيضاً معن بن زائدة ، ومعروفة مشهورة قصته مع من جاء يسبه ويشتمه ثم انتهى إلى القول : سمعت عن حلمك فجئت اختبره، والله لو وزّع على أهل الأرض لكفاهم.
ومن الذين شهد التاريخ بحلمهم أيضاً الأحنف بن قيس الذي كان إذا غضب غضب لغضبه مائة ألف فارس لايسألونه فيما غضب ، ومع ذلك كان يقول:
(( لست حليماً ولكني أتحالم))
والحقّ أن هذا المعنى هو ما أود أن أتناوله ، وأركز عليه في مقالي هذا، فإذا كان الأحنف قال ما قد قال، وهو من باب التواضع بكل تأكيد ، فما يمكن أن نقول عن أنفسنا نحن أفراد هذا العصر، من نتشاجر لأتفه الأسباب، ويرمي بعضنا بعضاً بكلام السوء والفجور..؟
ماذا يمكن أن نقول وماصلتنا بالحلم، إذا كنا نضيق ذرعاً، بكلمة نقد توجهها الصحافة لهذه الجهة، أو لتلك في سياق تأدية الوظيفة، إن لم أقل في سياق تأدية الرسالة؟!1
إني لا أتحدث عن قصة بعينها، ولا أغمز من قناة أحد ، ولكني أتحدث عن ظاهرة شاعت وانتشرت، ويعاني منها عموم أفراد المجتمع بمعظم شرائحهم وفئاتهم ، تُراهم أقرب إلى الغضب منهم إلى الأناة، وتراهم أميل إلى النزق منهم إلى الحلم والتروي لذلك حريٌّ بنا أن نلقي الضوء على هذه العلة التي أضعفت النفوس ، وانحدرت بها وبأخلاقياتها، وذلك من باب النصح الذي يبدأ من الذات وينتهي بالآخرين.
فإذا كان الحلم طبعٌ من الطبائع لا يتحلى به إلا قلة قليلة ونذرٌ يسيرٌ فإن الصحيح أيضاً أن الطباع تكتسب بالمران، والتعلم شأنها شأن العلم والمعرفة لذلك من الضروري والمفيد الرجوع بين الفينة والأخرى إلى قصص أهل الحلم والأناة لعلنا نتطبع بطباعهم أو نكتسب منهم بعض ماوهبهم الله من نعمة وخلق جميل نبيل عملا بقول أحد الحكماء : (( إن أفضل وادٍ ترى به: الحلم ، فإذا لم تكن حليماً فتحلم فقلما تشبه رجلٌ بقوم إلا كان منهم ))
والحق أن عادة التقليد تكون سهلة وممتعة حين يتلاقى ماقرأه الفرد أو سمع به مع نمط تفكيره وتركيبته ومكنونات نفسه، وحينئذ يتحقق الانسجام بين الخُلق المقلّد وصاحبه مما يولد حالة من الرضا يعيشها الفرد تماماً مثلما تؤتي الشجرة أكلها الطيب حين تغرس في تربة خصبة ووسط مناخ ملائم على أن احدى الاشكاليات التي تدفع الذين تحدوهم الرغبة الدائمة في تقليد من شهد التاريخ بحلمهم إلى الابتعاد قليلاً أو كثيراً عن الخلق القويم المقلّد ((الحلم)) هو الخشية ألا يقدر الآخرون ذلك فيطمع من يطمع ممن تتنازعهم محبة الهيمنة ، وتجاوز التخوم فيميل المقلّد إلى القول: إن مواجهة مشكلة واحدة تفرض نفسها على الانسان اليوم يجنبه مشاكل أكبر وأكثر في الغد.
وإذا كنت واحداً من الذين يقرون بصحة هذا الرأي وصوابيته، فإنني أؤكد وأقر لما أستعيد قصص الحلم التي تملأ تاريخنا العربي أنه هو سيد الأخلاق بلا منازع، وهو الخير العميم والطبع الأجمل من الجميل، والتمسك به أفضل بكثير من تركه والتمرد عليه.
مصطفى النعسان