الصدقة قبل الاستسقاء :
11 - اتفقت المذاهب على استحباب الصدقة قبل الاستسقاء ، ولكنهم اختلفوا في أمر الإمام بها ، قال الشافعية ، والحنابلة ، والحنفية ، وهو المعتمد عند المالكية : يأمرهم الإمام بالصدقة في حدود طاقتهم . وقال بعض المالكية : لا يأمرهم بها ، بل يترك هذا للناس بدون أمر ؛ لأنه أرجى للإجابة ، حيث تكون صدقتهم بدافع من أنفسهم ، لا بأمر من الإمام .
آداب شخصية :
12 - اتفق الفقهاء على آداب شخصية ، يستحب أن يفعلها الناس قبل الاستسقاء ، بعد أن يعدهم الإمام يوما يخرجون فيه ؛ لحديث عائشة المتقدم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وعد الناس يوما يخرجون فيه » فيستحب عند الخروج للاستسقاء : التنظف بغسل وسواك ؛ لأنها صلاة يسن لها الاجتماع والخطبة ، فشرع لها الغسل ، كصلاة الجمعة . ويستحب : أن يترك الإنسان الطيب والزينة ، فليس هذا وقت الزينة ، ولكنه يقطع الرائحة الكريهة ، ويخرج في ثياب بذلة ، وهي ثياب مهنته ، ويخرج متواضعا خاشعا متذللا متضرعا ماشيا ، ولا يركب في شيء من طريقه ذهابا إلا لعذر ، كمرض ونحوه . والأصل في هذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متواضعا متبذلا متخشعا متضرعا » وهي مستحبات لم يرد فيها خلاف .
الاستسقاء بالدعاء :
13 - قال أبو حنيفة : إن الاستسقاء هو دعاء واستغفار ، وليس فيه صلاة مسنونة في جماعة . فإن صلى الناس وحدانا جاز ، لقوله تعالى : { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا } الآية ، وقد استدل له كذلك بحديث عمر رضي الله عنه واستسقائه بالعباس رضي الله عنه من غير صلاة ، مع حرصه على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد علل ابن عابدين رأي أبي حنيفة فقال : الحاصل أن الأحاديث لما اختلفت في الصلاة بالجماعة وعدمها على وجه لا يصح معه إثبات السنية ، لم يقل أبو حنيفة بسنيتها ، ولا يلزم من قوله هذا أنها بدعة ، كما نقل بعض المتعصبين ، بل هو قال بالجواز ، والظاهر أن المراد الندب والاستحباب ، لقوله في الهداية : لما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مرة وتركه أخرى لم يكن سنة ؛ لأن السنة ما واظب عليه . والفعل مرة والترك أخرى يفيد الندب . وأما المالكية ، والشافعية ، والحنابلة ، وأبو يوسف ومحمد من الحنفية : فقالوا بسنية الدعاء وحده ، وبسنيته مع صلاة له على التفصيل الذي تقدم .
الاستسقاء بالدعاء والصلاة :
14 - المالكية ، والشافعية ، والحنابلة ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن من الحنفية قالوا : الاستسقاء يكون بالصلاة والدعاء والخطبة ، للأحاديث الواردة في ذلك . وقال أبو حنيفة : لا خطبة في الاستسقاء ، وما تقدم من رواية أنس لا يثبت الخطبة ؛ لأن طلب السقيا من رسول الله وقع له صلى الله عليه وسلم وهو يخطب ، فالخطبة سابقة في هذه الحادثة على الإخبار بالجدب .
تقديم الصلاة على الخطبة وتأخيرها :
15 - في المسألة ثلاثة آراء :
الأول : تقديم الصلاة على الخطبة ، وهو قول المالكية ، ومحمد بن الحسن ، والراجح عند الحنابلة ، وهو الأولى عند الشافعية ، وعليه جماعة الفقهاء ؛ لقول أبي هريرة : « صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم خطبنا » ولقول ابن عباس : صنع في الاستسقاء كما يصنع في العيد ؛ ولأنها صلاة ذات تكبيرات ، فأشبهت صلاة العيد .
الثاني : تقديم الخطبة على الصلاة وهو رأي للحنابلة ، وخلاف الأولى عند الشافعية ، وروي ذلك عن ابن الزبير ، وأبان بن عثمان ، وهشام بن إسماعيل ، والليث بن سعد ، وابن المنذر ، وعمر بن عبد العزيز . ودليله ما روي عن أنس وعائشة : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب وصلى » ، وروي عن عبد الله بن زيد قال : « رأيت النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج يستسقي حول إلى الناس ظهره ، واستقبل القبلة يدعو ، ثم حول رداءه ، ثم صلى لنا ركعتين جهر فيهما بالقراءة » . متفق عليه .
الثالث : هو مخير في الخطبة قبل الصلاة أو بعدها ، وهو رأي للحنابلة ؛ لورود الأخبار بكلا الأمرين ، ودلالتها على كلتا الصفتين .
كيفية صلاة الاستسقاء :
16 - لا يعلم بين القائلين بصلاة الاستسقاء خلاف في أنها ركعتان ، واختلف في صفتها على رأيين :
الرأي الأول ، وهو للشافعية ، والحنابلة ، وقول لمحمد ، وسعيد بن المسيب ، وعمر بن عبد العزيز : يصليها ركعتين يكبر في الأولى سبعا ، وخمسا في الثانية مثل صلاة العيد ، لقول ابن عباس في حديثه المتقدم : وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد ، ولما روي عن جعفر بن محمد عن أبيه « أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يصلون صلاة الاستسقاء يكبرون فيها سبعا وخمسا » .
الرأي الثاني : وهو للمالكية ، والقول الثاني لمحمد ، وهو قول الأوزاعي ، وأبي ثور ، وإسحاق : تصلى ركعتين كصلاة النافلة والتطوع ؛ لما روي عن عبد الله بن زيد : « أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فصلى ركعتين » وروى أبو هريرة نحوه ، ولم يذكرا التكبير ، فتنصرف إلى الصلاة المطلقة . واتفقت المذاهب على الجهر بالقراءة في الاستسقاء ؛ لأنها صلاة ذات خطبة ، وكل صلاة لها خطبة فالقراءة فيها تكون جهرا ؛ لاجتماع الناس للسماع ، ويقرأ بما شاء ، ولكن الأفضل أن يقرأ فيهما بما كان يقرأ في العيد ، وقيل : يقرأ بسورتي ق ونوح ، أو يقرأ بسورتي الأعلى والغاشية ، أو بسورتي الأعلى والشمس . وحذف التكبيرات أو بعضها أو الزيادة فيها لا تفسد الصلاة . وقال الشافعية : ولو ترك التكبيرات أو بعضها أو زاد فيهن لا يسجد للسهو ، ولو أدرك المسبوق بعض التكبيرات الزائدة فهل يقضي ما فاته من التكبيرات ؟ قالوا : فيها القولان ، مثل صلاة العيد .
كيفية الخطبة ومستحباتها :
17 - قال الشافعية ، والمالكية ، ومحمد بن الحسن من الحنفية : يخطب الإمام خطبتين كخطبتي العيد بأركانهما وشروطهما وهيئاتهما ، وفي الجلوس إذا صعد المنبر وجهان كما في العيد أيضا ، لحديث ابن عباس المتقدم ؛ ولأنها أشبهتها في التكبير وفي صفة الصلاة . وقال الحنابلة ، وأبو يوسف من الحنفية ، وعبد الرحمن بن مهدي : يخطب الإمام خطبة واحدة يفتتحها بالتكبير ، لقول ابن عباس : لم يخطب خطبتكم هذه ، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير ، وهذا يدل على أنه ما فصل بين ذلك بسكوت ولا جلوس ؛ ولأن كل من نقل الخطبة لم ينقل خطبتين . ولا يخرج المنبر إلى الخلاء في الاستسقاء ؛ لأنه خلاف السنة . وقد عاب الناس على مروان بن الحكم عند إخراجه المنبر في العيدين ، ونسبوه إلى مخالفة السنة . ويخطب الإمام على الأرض معتمدا على قوس أو سيف أو عصا ، ويخطب مقبلا بوجهه إلى الناس . وقد صرح المالكية بأن الخطبة على الأرض مندوبة ، وعلى المنبر مكروهة . أما إذا كان المنبر موجودا في الموضع الذي فيه الصلاة ، ولم يخرجه أحد ففيه رأيان : الجواز ، والكراهة . وقال الحنفية ، والحنابلة ، والشافعية في القول المرجوح : يكبر في الخطبة كما في صلاة العيد . وقال المالكية ، والشافعية في الراجح عندهم : يستبدل بالتكبير الاستغفار ، فيستغفر الله في أول الخطبة الأولى تسعا ، وفي الثانية سبعا ، يقول : أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ، ويختم كلامه بالاستغفار ، ويكثر منه في الخطبة ، ومن قوله تعالى : { استغفروا ربكم إنه كان غفارا } الآية ، ويخوفهم من المعاصي التي هي سبب الجدب ، ويأمرهم بالتوبة ، والإنابة والصدقة والبر . وقال الحنفية ، والشافعية ، والمالكية : يستقبل الإمام الناس في الخطبة مستدبرا القبلة ، حتى إذا قضى خطبته توجه بوجهه إلى
القبلة يدعو . وقال الحنابلة : يستحب للخطيب استقبال القبلة في أثناء الخطبة ؛ لما روى عبد الله بن زيد : « أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يستسقي ، فتوجه إلى القبلة يدعو » وفي لفظ : « فحول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة يدعو » .
صيغ الدعاء المأثورة :
18 - يستحب الدعاء بما أثر عن النبي ، ومن ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وسلم « أنه كان يدعو في الاستسقاء فيقول : اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا مريعا غدقا مجللا سحا عاما طبقا دائما . اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين . اللهم إن بالبلاد والعباد والخلق من اللأواء والضنك ما لا نشكو إلا إليك . اللهم أنبت لنا الزرع ، وأدر لنا الضرع ، واسقنا من بركات السماء ، وأنبت لنا من بركات الأرض . اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا ، فأرسل السماء علينا مدرارا ، فإذا مطروا . قالوا : اللهم صيبا نافعا . ويقولون : مطرنا بفضل الله وبرحمته » . وروي « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر ، حين قال له الرجل : يا رسول الله هلكت الأموال ، وانقطعت السبل ، فادع الله أن يغيثنا . فرفع يديه وقال : اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا » . وروي عن الشافعي قوله : « ليكن من دعائهم في هذه الحالة : اللهم أنت أمرتنا بدعائك ، ووعدتنا إجابتك ، وقد دعوناك كما أمرتنا ، فأجبنا كما وعدتنا ، اللهم امنن علينا بمغفرة ما قارفنا ، وإجابتك في سقيانا ، وسعة رزقنا ، فإذا فرغ من دعائه أقبل على الناس بوجهه ، وحثهم على الطاعة ، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا للمؤمنين والمؤمنات ، وقرأ آية من القرآن أو آيتين ، ويكثر من الاستغفار ، ومن قوله تعالى : { استغفروا ربكم إنه كان غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا } .
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه استسقى فكان أكثر دعائه الاستغفار ، وقال : لقد استسقيت بمجاديح السماء .
رفع اليدين في الدعاء في الاستسقاء :
19 - استحب الأئمة رفع اليدين إلى السماء في الدعاء ، لما روى البخاري عن أنس قال : « كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء » . وأنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه . وفي حديث لأنس « فرفع الرسول صلى الله عليه وسلم ورفع الناس أيديهم » وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قريب من ثلاثين حديثا في رفع اليدين في الاستسقاء . وذكر الأئمة : أنه يدعو سرا وجهرا ، فإذا دعا سرا دعا الناس سرا ، فيكون أبلغ في البعد عن الرياء . وإذا دعا جهرا أمن الناس على دعاء الإمام . ولهذا يستحب أن يدعو بعض الدعاء سرا ، وبعضه جهرا ، ويستقبل القبلة في دعائه متضرعا خاشعا متذللا تائبا .
الاستسقاء بالصالحين :
20 - اتفق جمهور الفقهاء على استحباب الاستسقاء بأقارب النبي صلى الله عليه وسلم وبالصالحين من المسلمين الذين عرفوا بالتقوى والاستقامة ، لأن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس وقال : اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبيك فتسقينا ، وإنا نتوسل بعم نبينا فاسقنا ، فيسقون . وروي أن معاوية استسقى بيزيد بن الأسود فقال : « اللهم إنا نستسقي بخيرنا وأفضلنا ، اللهم إنا نستسقي بيزيد بن الأسود . يا يزيد ارفع يديك إلى الله تعالى ، فرفع يديه ورفع الناس أيديهم ، فثارت سحابة من المغرب كأنها ترس ، وهب لها ريح ، فسقوا حتى كاد الناس ألا يبلغوا منازلهم .
التوسل بالعمل الصالح :
20م ـ ويستحب أن يتوسل كل في نفسه بما قدم من عمل صالح . واستدل على هذا بحديث ابن عمر في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة أصحاب الغار ، وهم الثلاثة الذين آووا إلى الغار ، فأطبقت عليهم صخرة ، فتوسل كل واحد بصالح عمله ، فكشف الله عنهم الصخرة ، وقشع الغمة ، وخرجوا يمشون .