فقيه الفقهاء وسيد التابعين سعيد بن المسيب القرشي المخزومي، ولد لسنتين من خلافة عمرة رضي الله عنه، وقد روي عن عدد من الصحابة وبعض أمهات المؤمنين وكان أعلم الناس بقضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاء أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حتى قال عن نفسه: "ما أحد أعلم بقضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر وعمر مني.
وروي عنه كثير من كبار العلماء، ومن أبرز من تلقى العلم عنه محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، حتى قال عنه: "جالسته سبع حجج وأنا لا أظن عند أحد علما غيره".
وقد لفت تميزه في العلم والفقه نظر بعض الصحابة والتابعين حتى أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وجد رجلا سأله عن مسألة فقال له: إيت هذا فسله ـ يعني سعيدا ـ ثم أرجع إلي فأخبرني، ففعل ذلك وأخبره، فقال ابن عمر لمن حوله لما أخبر بإجابة سعيد معبرا عن إعجابه بعلمه: ألم أخبركم أنه أحد العلماء" وقال لأصحابه عن سعيد: "لو رأى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لسره"، وكان يرسل إليه يسأله عن قضايا عمر وأحكامه.
وكان اشتهاره بالعلم وتقدمه فيه قد شاع على ألسنة الناس، وكان الرجل يأتي إلي المدينة المنورة فيسأل عن أفقه أهلها وأعلمهم فيوجه إلي سعيد، ومن ذلك ما روي عن ميمون بن مهران قال: "أتيت المدينة فسألت عن أفقه أهلها، فدفعت إلي سعيد بن المسيب".
ويقول شهاب بن عباد العصري: "حججت فأتينا المدينة، فسألنا عن أعلم أهلها، قالوا: سعيد".
وقد بلغ من الثقة في علمه وفقهه أنه كان يفتي والصحابة أحياء وقد أعانه على الوصول إلي تلك المنزلة ما كان يتمتع به من حافظة واعية وتفان في تحصيل ألوان المعارف، حتى إنه كان لا ينسى من يلقاه من طلابه، فقد حدث عمران بن عبد الله الخزاعي قال: "سألني سعيد بن المسيب فانتسبت له، فقال: "لقد جلس أبوك إلي في خلافة معاوية" ويقول: "والله ما أراه مر على أذنه شيء قط إلا وعاه".
وقال عنه ابن خلكان: "كان سعيد المذكور سيد التابعين من الطراز الأول، جمع بين الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع".
وقال عن نفسه: "كنت أرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد".
وكان فيه صلابة ورثها عن آبائه وأجداده، فقد روي عنه جده حزنا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما اسمك؟
قال: حزن .. قال: بل أنت سهل.
قال: يا رسول الله اسم سماني به أبواي، وعرفت به في الناس فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال سعيد: "فما زلنا تعرف الحزونة فينا أهل البيت".
وقد جرت عليه هذه الصلابة كثيرا من المتاعب حيث كان دائما على غير وفاق مع الولاة والحكام حاشا عمر بن عبد العزيز وكان لا يأتي أحدا من الولاة، وكان عمر بن عبد العزيز يعرف له مكانته، فكان إذا عرض له قضية يبعث إليه يسأله عن رأيه، ثم يأخذ به، وذات مرة بعث إليه التوجه إلي عمر، فلما ذهب إلي عمر اعتذر له وقال أخطأ الرسول: إنما أرسلناه يسألك في مجلسك، وكان عمر يقول: ما كان بالمدينة عالم إلا يأتيني بعلمه وكنت أوتي بما عند سعيد بن المسيب.
وكان سعيد قد أخذ عن أبي هريرة كل ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان قد تزوج ابنة أبي هريرة رضي الله عنه.
أخلاقه وعبادته
كان سعيد رجلا وقورا له هيبة عند مجالسيه فكان يغلب عليه الجد، ولو نظرت إليه لخيل إليك أنك أمام رجل ممسك بموازين الحق والعدل بين يديه، قد تكفل بحراستها والقيام عليها، مدرك لمدى مسئولية الأمانة التي تحملها، فلا يجامل، ولا يغمض عينيه عن شيء لا يراه صحيحا، فيعلن إنكاره له، غير مبال بما يجره عليه ذلك من أذى، ومن أجل ذلك كانت علاقته بالولاة والحكام علاقة يشوبها التوتر والتربص وقد مر عليه أكثر من أربعين سنة لا يرفع الأذان إلا وهو في المسجد ينتظر الصلاة، وكان دائما في الصف الأول ولم يفته الجماعة إلا يوم أن عاقبه والي المدينة وطوف به في طرقات المدينة، وجاء إلي المسجد، وقد أنصرف الناس من الصلاة، فقال: هذه وجوه ما رأيتها منذ أربعين سنة وقد حج كما قال بضعا وعشرين حجة.
وكان سعيد له تجارة تدر عليه دخلا يكفيه ليعيش عيشة راضية، ولهذا لم يكن يأخذ عطاء من الدولة حجرا على رأيه، وتقييدا لحريته، وكان عنده من يقوم بأمر تجارته، فلا يشغله أمرها عن عبادته وعلمه، وكان يدعو إلي اكتساب المال عن طرقه المشروعة، ليتمكن من صلة الرحم وأداء الأمانة، وصيانة الكرامة، والاستغناء عن الخلق، ومما أثر عنه في ذلك قوله: "لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله، يعطي منه حقه، ويكف به وجهه عن الناس". وخير ما يصور وجهة نظره في امتلاك المال قوله: "اللهم إنك تعلم أني لم أمسكه بخلا ولا حرصا عليه، ولا محبة للدنيا، ونيل شهواتها، وإنما أريد أن أصون به وجهي عن بني مروان، حتى ألقى الله فيحكم في وفيهم، وأصل منه رحمي، وأؤدي منه الحقوق التي فيه. وأعود منه على الأرملة والفقير والمسكين واليتيم والجار".
وقد نما ماله حتى ترك عند وفاته ثلاثة آلاف دينار، وقال والله ما تركتها إلا لأصون بها ديني وحسبي، وكان يقول: "من استغنى بالله افتقر الناس إليه".
ولهذا كان سعيد في بحبوحة من العيش، وقد وضح أثر ذلك في مظهره وملبسه، وحسن هيئته تحدثا بنعمة الله عليه، وكان بمسلكه ذلك يعطي المثل العملي للعالم في نزاهته ونظافته، وحسن هندامه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان أجمل الخلق منظرا، وأعجبهم مظهرا، وأنظفهم ثوبا، وكان يمشط شعره، ويدهن الطيب حتى تشم رائحته العطرة من بعيد وإذا مس أحد يده يبقى أثر الطيب عالقا بها مدة طويلة، وكل تعاليمه صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته يعلم الناس أن يحرصوا على بهاء المنظر وجمال الصورة وطيب الرائحة وحسن السمت. ولهذا من فقه الرجل أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم لأن القرآن الكريم يقول:
{ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } (الأحزاب ،الآية:21) وسعيد رحمه الله كان حريصا على أن يقفو خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلم الناس سنته وهديه.
موقف سعيد من أحداث عصره
كان الأمويوين والزبيريون يتنازعون على الحكم في أيام سعيد، وكانت المدينة أحيانا تكون تحت حكم الأمويين وأحيانا تحت حكم الزبيريين، وكان الوالي يحاول أن ينفذ سياسة الجهة التي ينتمي إليها، وكان مقر حكم الزبيريين بمكة ومقر حكم الأمويين بدمشق، ولم يكن سعيد راضيا عن هؤلاء ولا أولاء.
وحدث أن كان والي المدينة في فترة يدعى جابر بن الأسود ابن عوف الزهري من طرف الزبيريين، ودعا الناس إلي البيعة لعبد الله بن الزبير، وكان سعيد يرى أن الأمور غير مستقرة وليس من الحكمة المبايعة في ذلك الظرف غير المناسب، ولذلك لما دعاء الوالي إلي البيعة قال: "لا .. حتى يجتمع الناس"، فكبر على الوالي موقف سعيد وضربه ستين سوطا، ولما بلغ ما صنع ابن الزبير لم يرض بما صنعه واليه وكتب إليه يلومه على ما صنعه مع سعيد".
ويبدو أن الوالي كان قد نقم على سعيد أنه عاب عليه أن يتزوج، قبل أن تنتهي عدة الزوجة الرابعة التي طلقها، ويرى سعيد أنها ما دامت في العدة فهي في حكم الزوجة، ولا يرى صحة الزواج إلا بعد انتهاء العدة وقد أدرك سعيد أن الوالي يريد أن يعاقبه على إعلانه عدم صحة زواجه، ولذلك لما كانت السياط تنهال على سعيد صاح معلنا عن رأيه قائلا: والله ما ربعت على كتاب الله، وإنك تزوجت الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة، وما هي إلا ليال فاصنع ما بدالك، فسوف يأتيك ما تكره، ولم يمكث إلا قليلا حتى قتل ابن الزبير.
وليس معنى امتناع سعيد عن البيعة لابن الزبير أنه كان يوالي الأمويين، بل كان يواجه الخطأ مهما كان مصدره، فكان إذا رأى أمرا غير سديد رفضه وأعلن عن عدم قبوله وامتنع عن الاستجابة له مهما كلفه ذلك من أمر.
وكان الوضع السياسي قد تغير في المدينة بعد أن قتل ابن الزبير، وخلص الأمر للأمويين، وكان هناك وال أموي هو هشام ابن إسماعيل المخزومي، وفي عام 84 هـ توفى عبد العزيز بن مروان وكان مبايعا له بولاية العهد بعد عبد الملك، فلما مات عقد عبد الملك بولاية العهد لابنيه الوليد وسليمان، ودعا إلي أخذ البيعة لهما، وأخذ والي المدينة البيعة إلا أن سعيدا أبى أن يبايع محتجا بأنه لا يجوز أن تكون بيعتان معا، فكتب الوالي إلي الملك يخبره باستجابة أهل المدينة إلي المبايعة وامتناع سعيد، فكتب عبد الملك إلي واليه هشام أن يعرضه على السيف، فإن لم يتراجع طلب إليه أن يجلده خمسين جلدة، وأن لا يفعل ذلك بسعيد، فأطلع بعض زملاء سعيد من الفقهاء على خطاب عبد الملك، لعلهم يحاولون إقناعه بأن يستجيب للبيعة، ولا يتعرض لهذا الموقف الذي لا يحب أن ينسب إليه، وهو لا يستطيع أن يتغاضى لهذا الموقف ما جاء في رسالة عبد الملك خشية منه، وإن كانت بعض الروايات تقول إنه كان قد بدأ بإيقاع العقاب بسعيد لما امتنع عن البيعة، وأن عبد الملك بعث إليه يلومه على فعله بسعيد، ولكننا نميل إلي الأخذ بالرواية التي تقول إن عبد الملك هو الذي أمر بإيقاع العذاب بسعيد حتى لا يشجع التهاون معه غيره على الامتناع عن المبايعة، وقد يضاف إلي ذلك أن عبد الملك كان في نفسه شيء من سعيد لأنه رفض أن يزوج ابنته للوليد بن عبد الملك، كما سنبين ذلك فيما بعد.
فلما أطلع الوالي الفقهاء على كتاب عبد الملك في شأن سعيد توجه عروة بن الزبير وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار إلي منزل سعيد، وقالوا: إنا قد جئناك في أمر: قد قدم كتاب فيك من عبد الملك بن مروان إن لم تبايع ضربت عنقك، ونحن نعرض عليك خصالا ثلاثا، فأعطنا إحداهن، فإن الوالي قد قبل منك أن يقرأ عليك الكتاب، فلا تقل لا ولا نعم.
قال: يقول الناس بايع سعيد بن المسيب ما أنا بفاعل، وكان إذا قال لا لم يطيقوا عليه أن يقول نعم.
قال: مضت واحدة، وبقيت اثنتان.
قالوا: فتجلس في بيتك، فلا تخرج إلي الصلاة أياما، فإنه يقبل منك، إذا طلبت في مجلسك فلم يجدك.
قال: وأنا اسمع الأذان فوق أذني: حي على الصلاة حي على الفلاح، ما أنا بفاعل.
قالوا: مضت اثنتان، وبقيت واحدة، واقترحوا عليه أن ينتقل من مجلسه إلي غيره، فإذا أرسل الوالي إليه فلم يجده أمسك عنه.
قال: فرقا "خوفا" لمخلوق، ما أنا بمتقدم لذلك شبرا، ولا متأخر شبرا.
فخرجوا عنه وخرج إلي الصلاة، صلاة الظهر، فجلس في مجلسه الذي كان يجلس فيه، فلما صلى الوالي بعث إليه فأتى به.
فقال: إن أمير المؤمنين كتب يأمرنا إن لم تبايع ضربنا عنقك.
قال سعيد: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين.
فلما رآه لا يجيب أخرج إلي السدة، فمدت عنقه وسلت عليه السيوف، فلما رآه قد مضى "ولم يتراجع" أمر به. فجرد من ثيابه فإذا عليه تبان شعر "كساء يلبس ليستر العورة".
وكان بعض غلمان الوالي قد أخبروه أنه سيقتل فارتدى ذلك الكساء حتى لا تنكشف عورته إذا قتل.
فقال: لولا ظننت أنه القتل ما لبسته، وأمر الوالي فضرب خمسين سوطا، ثم أمر أن يطاف به في أسواق المدينة، فلما رده، والناس منصرفون من صلاة العصر قال: إن هذه الوجوه ما نظرت إليها منذ أربعين سنة.
وذلك لأنه تعود أن يكون في المسجد قبل الأذان ينتظر الصلاة، وكان مكانه دائما في الصف الأول.
ويبدو أن المحاولة قد تكررت مع سعيد قام بها آخرون من أصحابه وأقرانه، ولكنه كان يصر دائما على عدم الاستجابة، والذي يدرس حياة سعيد بن المسيب يعرف أن الرجل كان إذا قال لا، لا يمكن أن يثنيه عن قوله أحد ولذلك كانت علاقته سيئة ببني مروان، وكان يعرف عنه عدم رضاه عنهم، لأنهم لم يلتزموا التزاما كاملا بما يدعو إليه الإسلام في نظام الحكم القائم على مبدأ الشورى.
السجن والمقاطعة
بعد أن عوقب سعيد بالجلد والتشهير به في طرقات المدينة، زج به إلي السجن، وقضي به فترة لم تنقطع فيها محاولة الوالي أن ينتزع منه الموافقة على البيعة للوليد ولسليمان أملا في أن يستجيب ويخلي سبيله، وكان يستعين على الوصول إلي ما يريد بكل من له صلة قرابة بهما أو مودة: فقد توجه إلي السجن أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أحد الفقهاء السبعة وتكلم معه في موقفه من الوالي، وموقف الوالي منه، ولام سعيدا على ما أظهره من عدم المبالاة بالوالي على الرغم من مداراته له ويبد أن الحوار بينهما قد اشتد حتى ضاق به سعيد، كما يتبين من المحاورة التالية:
قال له أبو بكر: إنك خرقت به "يعني استهزأت به".
قال سعيد: يا أبا بكر، اتق الله وأثره على ما سواه، وأخذ أبو بكر يردد اتهامه لسعيد قائلا: إنك خرقت به ولم ترفق حتى ضاق به سعيد، وعاودته حدته فقال له، إنك والله أعمى البصر وأعمى القلب.
ولما خرج أبو بكر من عند سعيد بعث إليه هشام يسأله إذا كان سعيد قد لأن.
فقال أبو بكر: والله ما كان أشد لسانا منذ فعلت به ما فعلت، فاكفف عن الرجل.
ومن دراسة ما روي حول الفترة التي قضاها سعيد في السجن يمكن أن نتعرف على بعض الحقوق التي كانت تقدم للسجناء في ذلك العهد المتقدم، فلم يكن هناك حظر على أهل السجين أن يقدموا إليه من الطعام والملابس والفراش ما يريدون بدون أن يتدخل الحكام في ذلك، ونحن نعرف من صحبتنا لحياة سعيد في الصفحات السابقة أنه كان في بحبوحة من العيش جاءه ما أعدت ابنته دعا برجل يسمى أسلم بن أمية، وقال له أذهب إلي ابنتي، فقل: لا تعودي لمثل هذا أبدا، فهذه حاجة هشام ابن إسماعيل، يريد أن يذهب مالي، فأحتاج إلي ما في أيديهم، وأنا لا أدري ما أحبس، فانظري إلي القوت الذي كنت أكل في بيتي فابعثي به إلي.
وقدم هذه النصيحة إلي رجل آخر كان معه في السجن، وكان أهله يبعثون إليه بألوان الطعام، فنصحه سعيد قائلا:
أتريد أن تجلس هاهنا، كف عنك هذا.
ونستطيع أن ندرك مما سبق مدى الحرية التي كان يتمتع بها السجناء، مما يرجو نزلاء السجون في أيامنا هذه أن يتمتعوا بمثله وكان يسمح لهم بالزوار بدون حرج، فقد حدث عبد الله بن يزيد الهذلي قال: دخلت على سعيد بن المسيب السجن، فإذا هو قد ذبحت له شاة، فجل الإهاب على ظهره، ثم جعلوا له بعد ذلك قبضا رطبا" وكان كلما نظر إلي عضديه، قال: اللهم انصرني من هشام.
وبعد أن خرج من السجن لم يترك وشأنه بل حرم عليه الجلوس إلي أحد، وحيل بين الناس وبين الجلوس إليه بما نسميه في عرفنا المعاصر بالمقاطعة الاجتماعية (العزل).
ولكنه كان يذهب إلي مجلسه كعادته، ولم يكن يجرؤ أحد على مجالسته، فقد دخل مسجد المدينة رجل يسمى يونس القزي، فوجد سعيدا يجلس وحده، فتساءل ما شأنه، فأخبر أنه نهى أن يجالسه أحد وكان سعيد لا يحب أن يؤذي أحد بسببه، فكان إذا جلس إليه شخص أخبره أن الوالي منع الناس من مجالسته، وأنه يخشى أن يناله أذى بسبب هذه المجالسة، كان يقول ذلك لمن لا يعرف الحظر إبراءً لذمته.
اعتزازه بنفسه:
كان سعيد لا يذهب للقاء أحد من خلفاء بني مروان ولا يستجيب لهم إذا دعوه. فقد حدث ذات يوم أن كان عبد الملك بن مروان بالمدينة وأراد أن يستريح في وقت الظهيرة، ولكن النوم استعصى عليه، فطلب إلي حاجبه أن يستدعي له أحدا ممن في المسجد يتحدث إليه، وخرج الرجل إلي المسجد، فوجد سعيدا في حلقته، فوقف بحيث يراه سعيد، ثم أشار إليه بإصبعه يستدعيه، ليذهب معه، وانطلق الحاجب ظانا أن سعيدا سيتبعه، ولكنه لم يتحرك من مكانه.
فقال الحاجب "لا أراه فطن، ثم عاد إليه ودنا منه، ثم غمزه وقال: ألم ترني أشرت إليك؟
قال سعيد: وما حاجتك؟
قال: أجب أمير المؤمنين.
فقال: إلي أرسلك؟
قال: لا، ولكن قال: انظر بعض حداثنا، فلم أر أحدا أهيأ منك.
قال: أذهب فأعلمه، أني لست من حداثه.
فخرج الحاجب، وهو يقول، ما أرى هذا الشيخ إلا مجنونا، وذهب فأخبر عبد الملك.
فقال عبد الملك: ذاك سعيد بن المسيب، فدعه.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ولم تكن هذه المرة الوحيدة التي رفض فيها سعيد لقاء عبد الملك، فقد قدم المدينة بعد أدائه فريضة الحج، ووقف على باب المسجد، وأرسل إلي سعيد بن المسيب رجلا يدعوه إليه، وطلب إليه ألا يحركه فأتاه الرسول، وقال: أجب أمير المؤمنين واقفا بالباب، يريد أن يكلمك.
فقال سعيد: ما لأمير المؤمنين إلي حاجة، ومالي إليه حاجة وإن حاجته لي غير مقضية.
فرجع الرسول إلي عبد الملك وأخبره بما سمع، فقال أرجع، فقل له: إنما أريد أن أكلمك. ولا تحركه فرجع إليه فقال: أجب أمير المؤمنين فرد عليه مثلما رد عليه المرة الأولى.
واشتد الغيظ بالرسول فقال: لولا أنه تقدم إلي فيك ما ذهبت إليه إلا برأسك، يرسل إليك أمير المؤمنين يكلمك تقول مثل هذا.
فقال سعيد: إن كان يريد أن يصنع بي خيرا فهو لك، وإن كان يريد غير ذلك فلا أحل حبوتي حتى يقضي ما هو قاض. فعاد الرجل إلي عبد الملك فأخبره، فقال: رحم الله أبا محمد أبي إلا صلابة.
وقد تكرر نفس الموقف مع الوليد بن عبد الملك لما آلت إليه الخلافة. فقد وصل إلي المدينة، ودخل المسجد فرأى شيخا قد اجتمع عليه الناس.
فقال: من هذا؟
قالوا: سعيد بن المسيب.
فلما جلس أرسل إليه، فأتاه الرسول.
فقال: أجب أمير المؤمنين.
فقال سعيد: لعلك أخطأ باسمي، أو لعله أرسلك إلي غيري فرد الرسول، فأخبره، فغضب وهم به.
فتدخل الناس، وقالوا: يا أمير المؤمنين. فقيه المدينة، وشيخ قريش، وصديق أبيك، لم يطمع ملك قبلك أن يأتيه، ومازالوا به حتى هذا غضبه، وتركه وشأنه.
أسرة سعيد
كان سعيد قد تزوج ابنة أبي هريرة، وكانت قد أخذت عن أبيها كثيرا مما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن نتصور منزلا وأسرة ربتها ابنة أبي هريرة وربها سعيد بن المسيب كيف تمضي الحياة فيه، وكيف ينشأ أبناء هذا البيت، إن التاريخ يحدثنا أن سعيد كان له ابن يسمى محمدا ولذلك كانوا ينادونه بـ"أبو محمد" وأن محمد هذا كان مرجعا في علم الأنساب حتى أن سعيدا كان إذا جاءه من يسأل عن الأنساب أحاله إلي ابنه محمد وكان له ابنة حاول عبد الملك كما سبق أن أشرنا أن يزوجها لابنه الوليد، ولكن سعيدا لم يوافق على هذا الزواج لاعتبارات كثيرة في مقدمتها عدم رضاه عن سياسة بني مروان وسعيد هذا الذي يرفض أن يزوج ابنته إلي الوليد بن عبد الملك ولي العهد والخليفة فيما بعد يعرض ابنته هذه على طالب فقير من طلابه لا يملك أكثر من ثلاثة دراهم في قصة مثيرة، ولعلنا نتساءل قبل أن نعرض الصورة التي تم بها الزواج عن مدى ما كانت تتمتع به ابنة سعيد من العلم والجمال، أما العلم فكانت قد أخذت علم أبيها حتى إنها في شهر العسل من زواجها أغنت زوجها عن التردد على حلقة أبيها، وأنها كانت على جانب كبير من الجمال أما قصة الزواج فيرويها كثير ابن أبي وداعة تلميذ سعيد فيقول: كنت أجالس سعيد بن المسيب، ففقدني أياما، فلما جئته قال: أين كنت؟
قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها.
فقال: ألا أخبرتنا. فشهدناها؟ ثم قال: هل استحدثت امرأة؟
فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني، وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟
قال: أنا.
فقلت: وتفعل؟!
قال: نعم، ثم تحمد وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وزوجني على درهمين أو ثلاثة.
فقمت، وما أدري ما أصنع من الفرح فصرت إلي منزلي وجعلت أفكر فيمن أستدين، فصليت المغرب، ورجعت إلي منزلي وكنت وحدي صائما، فقدمت عشائي أفطر، وكان خبزا وزيتا، فإذا بابي يقرع، فقلت: من هذا؟
فقال: سعيد.
ففكرت في كل من اسمه سعيد إلا ابن المسيب، فإنه لم ير أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فخرجت، فإذا سعيد فظننت أنه قد بدأ له "يعني غير رأيه". فقلت: يا أبا محمد ألا أرسلت إلي فآتيك؟
قال: لا، أنت أحق أن تؤتي، إنك كنت رجلا عزبا، فتزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذ بيدها. فدفعها في الباب، ثم رد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم وضعت القصعة في ظل السراج لكي لا تراها، ثم صعدت إلي السطح فرميت الجيران، فجاءوني، فقالوا: ما شأنك؟!
فأخبرتهم، ونزلوا إليها، وبلغ أمي، فجاءت، وقلت: وجهك من وجهي حرام. إن مسستها قبل أن أصلحها إلي ثلاثة أيام، فأقمت ثلاثا، ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحق زوج فمكثت شهرا لا آتي سعيد بن المسيب، ثم أتيته، وهو في حلقته، فسلمت، فرد علي السلام، ولم يكلمني حتى تقوض المجلس. فلما لم يبق غيري. قال: ما حال ذلك الإنسان؟
قلت: خيرا يا أبا محمد، على ما يحب الصديق، ويكره العدو.
قال: إن رابك شيء فالعصا.
فانصرفت إلي منزلي، فوجه إلي بعشرين ألف درهم!
تفصيلات أخرى تكشف عن بعض العادات الاجتماعية في ذلك العصر الذي سجلناه عن أحداث هذا الزواج هو ما جاء في كتاب الحلية لأبي نعيم الأصفهاني، وسير أعلام النبلاء لشمس الدين الذهبي ولكن هناك تفصيلات أخرى تكشف عن جوانب ذات مغزى في الحياة الاجتماعية في ذلك العصر جاء بها صاحب كتاب فقه الإمام سعيد بن المسيب، خلاصتها: أن ابن أبي حرملة، لما عرف أن الطارق سعيد بن المسيب قد استولى عليه الخوف وارتعدت فرائصه، وقال: لعل الشيخ ندم فجاء يستقيلني "يستعفيني" يقول: فخرجت إليه أجر رجلي، وفتحت الباب، فإذا أنا بشابة متلفعة بساج "الطيلسان الأخضر" ودواب عليها متاع وخادمة بيضاء، فسلم علي، ثم قال: يا عبد الله هذه زوجتك.
فقلت مستحييا منه: يرحمك الله، كنت أحب أن يتأخر ذلك أياما.
فقال لي: لم؟ ألست أخبرتني أن عندك أربعة دراهم؟
قلت: هو كما ذكرت لك. ولكن كنت أحب أن يتأخر ذلك.
قال: إنها إذن عليك لغير ميمونة، وما كان الله يسألني عن عزبتك الليلة، وعندي لك أهل.
هذه زوجتك، وهذا متاعكم، وهذه خادمة تخدمكم، معها ألف درهم نفقة لكم، فخذها يا عبد الله بأمانة الله، فوالله إنك لتأخذ صوامة قوامة، عارفة بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتق الله فيها، ولا يمنعك مكانها مني إن رأيت ما تكره أن تحسن أدبها. ثم سلمها إلي ومضى.
قال ابن أبي وداعة: فوالله ما رأيت امرأة قط أقرأ لكتاب الله تعالى، ولا أعرف بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أخوف لله عز وجل منها، قد كانت المسألة المعضلة تعيي الفقهاء، فأسألها عنها، فأجد عندها منها علما.
ثم قال: فأقمت عندها ما شاء الله، ثم رزقني الله منها حملا، وكان سعيد بن المسيب كثيرا ما يسألني عنها، فيقول: ما فعلت تلك الإنسانة؟ فأقول خيرا.
فيقول: يا عبد الله إن خف عليك أن تزيرناها فافعل.
وقصة هذا الزواج تكشف عن كثير من القيم الاجتماعية، التي كانت تسود المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت المبكر، وتحكم علاقات الناس، وتوجه نظرتهم إلي الحياة، فلم يكن هناك مغالاة في المهور، ولم يكن هناك إرهاق لمن يرغب في الزواج بكثرة المطالب التي تعجز عنها إمكاناته، بل كان هناك تقليد حميد يجعل الحياة سهلة على من يبني أسرة جديدة، إذا كان أهل العروس يقدمون لها ولزوجها ما يعينهما على بدء حياتهما في هدوء وسلام.
ومن تفاصيل الحوار الذي دار بين سعيد وزوج ابنته رأينا أن سعيد استأذنه في أن يسمح لها بزيارة بيت أبيها من وقت لآخر ويبدو أن سعيد كانت صلاته الاجتماعية محدودة فقد روي عنه أنه قال: ما ضمني سقف بيت بالمدينة إلا أني كنت أزور بنتا لي.
وكانت زوجة سعيد حريصة على أن يتهيأ لابنتها حياة زوجية هادئة، وكانت أيضا على جانب كبير من الإلمام بأحكام الدين والعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسبها أنها ابنة أبي هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجة سعيد بن المسيب، ويبدو أنها لم يرها في داره إلا أثناء وضعها ويتأكد ذلك من متابعة الحوار التالي:
قال ابن أبي وداعة: رجعت إلي الدار، وإذا بها شخص ما رأيته قط. فرجعت موليا.
فنادتني من ورائي: يا عبد الله، أدخل فقد أحل الله لك هذه النظرة.
فقلت: ومن أنت يرحمك الله؟
قالت: أنا أم الفتاة يا عبد الله كيف رأيت أهلك؟
قلت: جزاكم الله عن أهل بيتي خيرا، لقد ربيتم فأحسنتم وأدبتم فأحكمتم.
فقالت: يا عبد الله، لا يمنعك مكانها منا أن ترى بعض ما تركه، فتحسن أدبها، يا عبد الله، لا تملكها من أمرها ما جاوز نفسها، فإن المرأة ريحانة، وليست قهرمانة، ولا تكثر التبسم في وجهها فتستخف بك، بارك الله لكما في المولود، وجعله مباركا خائفا الله، ووقاه فتنة الشيطان. وجعله شبيها بجده سعيد، فوالله إني لزوجته منذ أربعين سنة. ما رأيته عصى الله تعالى معصية، ثم خرجت، فلم أر لها وجها ثماني عشرة سنة حتى قضي عليها الموت.
صورة من تعامله مع الناس
كان لسعيد مولى يتولى أمر تجارته وكان يخوض معه في الحديث، وينبسط معه في القول، راجيا أن يدفعه ذلك إلي الأمانة في المعاملة، والصدق في الحديث، ومما روي عنه حول ذلك أنه كان يقول له: اتق الله ولا تكذب علي كما كذب مولى ابن عباس على ابن عباس، وكان يحاسبه على الدانق في تجارته في الوقت الذي يرفض فيه أن يأخذ ثلاثين ألفا اجتمعت له عند بني مروان من العطاء الذي كان له.
وما يؤخذ عليه على الرغم من عبادته وتقواه أنه كان أحيانا يبدو عليه الاعتزاز بالأرومة، والأصل مما يعتبر أمرا غريبا عنه في مثل علمه وتقواه، إلا أنه كان لا يلبث أن يعود إلي طبيعته حينما يتنبه إلي أن مثل هذه النظرة لا تليق برجل في مثل مكانته من العلم والسن فقد روي رجل قرشي قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب فقال لي يوما: من أخوالك؟
فقلت: إن أمي فتاة "يعني أمة".
قال: كأني نقصت من عينيه، فأمهلت حتى أتي عليه سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، وخرج من عنده.
فقلت: يا أبا عبد الله، من هذا؟
فقال: سبحان الله، أتجهل هذا من قومك؟ هذا سالم بن عبد الله ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.
فقلت: من أمة؟
قال: فتاة.
ثم أتى القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فجلس عنده، ثم نهض.
فقلت له: يا أبا عبد الله، من هذا؟
فقال: ما أعجب أمرك أتجهل مثل هذا من قومك؟ هذا القاسم ابن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
قلت: فمن أمة؟
قال: فتاة.
وأتاه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم فقلت له: يا ؟أبا عبد الله، من هذا؟
قال: هذا الذي لا يسع مسلما جهله، هذا علي بن الحسين بن علي بن طالب رضي الله عنهم.
قلت: فمن أمة؟
قال: فتاة.
قلت: إني رأيتني نقصت من عينيك لما علمت أن أمي أم ولد، فما لي بهؤلاء أسوة.
قال: فجللت في عينيه جدا.
موقف سعيد من الشعر والغناء
كان سعيد ـ رحمه الله ـ رجلا عربي اللسان، واسع الثقافة، والشعر كما يقولون ديوان العرب، وما كان لرجل في ثقافة سعيد وعلمه أن يكون بعيدا عن الشعر والشعراء فقد روت كتب الأدب أنه كان يستمع للشعراء ويستنشدهم، وأنه كان يفاضل بين الشعراء، وكان إذا سمع غناء راقيا أطربه ذلك وأبدى استحسانه.
فقد روى صاحب الأغاني عن عبد الرحمن بن حرملة قال كنت عند سعيد بن المسيب، فجاء ابن قيس الرقيات، فهش وقال: مرحبا بظفر من أظفار العشيرة، وما أحدثت بعدي؟
قال: قد قلت أبياتا، وأستفتيك في بيت منها، فاسمعها.
قال: هات، فانشده:
هل للديار بأهلها علم قالت رقية: فيم تصرمنا تخطو بخلخالين حشوهما يا صاح، هل أبكاك موقفنا أم هل تبين فينطلق
الرسم أرقى ليس لوجهك الصرم ساقان مار عليهما اللحم أم هل علينا في البكا إثم
قال سعيد: لا والله ما أبكاني، قال ابن قيس الرقات
بل ما بكاؤك منزلا خلقا قفرا يلوح كأنه الوشم
فقال سعيد أعتذر الرجل، ثم أنشد:
أتلبث في تكريت لا في عشيرة وأنت امرؤ للحزم عندك منزل. شهود، ولا السلطان منك قريب وللدين والإسلام منك نصيب
فقال سعيد: لا مقال على ذلك فأخرج منها.
قال: قد فعلت.
قال: قد أصاب الله بك.
فأنت ترى من هذا الخبر أن سعيدا كان يستقبل ابن الرقيات، ويتابع إنتاجه، ويسمع له، بدليل قوله له: ما أحدثت بعدي؟ وأنه كان يتجاوب مع ابن الرقيات، ويعلق على قوله، وكون ابن الرقيات يأتيه ويتردد عليه وينشده شعره، يعني أنه يدرك اهتمام سعيد بالشعر، وقدرته على استحسان الحسن منه، وتأثيره به ولي هذا فقط، بل كان سعيد يفاضل الشعراء، ويفتخر بشعراء قريش ويقارن بينهم وبين سواهم، وإليك هذا الخبر الذي ساقه صاحب الأغاني الذي يرويه عن أبي مولي بني عامر بن لؤي قال: دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نوفل بن مساحق، وإنه لمعتمد على يدي، إذ مررنا بسعيد بن المسيب في مجلسه، وحوله جلساؤه فسلمنا عليه، فرد علينا ثم قال لنوفل: يا أبا سعيد، من أشعر، صحابنا أم صاحبكم؟ يريد عبد الله بن قيس، أو عمر بن أبي ربيعة.
فقال نوفل: حين يقولان ماذا يا أبا محمد؟
قال: حين يقول صاحبنا:
خليلي ما بال المطايا كأنما وقد قطعت أعناق صبابة وقد أتعب الحادي سراهن وانتحى يزدن بنا قربا فيزداد شوقنا نراها على الأدبار بالقوم تنكص فأنفسنا مما يلاقين شخص بهن فما يألو عجول مقلص إذ زاد طول العهد والبعد ينقص
ويقول صاحبك ما شئت.
فقال له نوفل: صاحبكم أشعر في الغزل، وصاحبنا أكثر أفانين شعر.
فقال سعيد: صدقت.
فلما انقضى ما بينهما من ذكر الشعر، جعل سعيد يستغفر الله، ويعقد بيده حتى وفي مائة.
فقال البكري في حديثه عن عبد الجبار: قال مسلم: فلما انصرفنا. قلت لنوفل: أتراه استغفر الله من إنشاد الشعر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال: كلا هو كثير الإنشاد والاستشهاد للشعر فيه، ولكن أحسب ذلك للفخر بصاحبه.
وهذا الخبر يلقي ضوءا على الاهتمام بالشعر والمفاضلة بين الشعراء وتتبع إنتاجهم إلي جانب الحاسة النقدية التي كان يتمتع بها سعيد ومحدثه حينما اتفقا على تقدم كل من الشاعرين في المجال الذي يبرز فيه، وأن سعيدا كان مكثرا من الإنشاد للشعر في مجلسه والاستشهاد به.
وعلى الرغم من أن سعيدا كان ينتصر لابن أبي ربيعة إلا أن ذلك لم يمنعه من أن ينقده ويعيب عليه إن رأى في شعره ما يؤاخذ عليه فقد أنشد قول عمر بن أبي ربيعة:
وغاب قمير كنت أرجو عيوبه روح رعيان ونوم سمر فقال: ما له قاتله الله، لقد صغر ما عظم الله، يقول الله عز وجل:
{ وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } (يس،الآية:39) .
وكذلك كان سعيد يطرب للغناء الجيد، ويبدي استحسانه إذا سمع صوتا عذبا يتغنى، ومن ذلك ما رواه صاحب الأغاني أن سعيدا كان يمر في بعض أزقة مكة، فسمع الأخضر الحربي يتغنى في دار العاص بن وائل:
تضوع مسكا بطن نعمان إذ مشت به زينب في نسوة خفرات
فضرب برجله، وقال: هذا والله مما يلذ استماعه.
وقد أورد صاحب زهر الآداب هذا الشعر مطولا فقال: سمع
فلم تر عيني مثل سرب رأيته مررن بفخ، ثم رحن عشية ولما رأت ركب النميري أعرضت دعت نسوة شم العرانين بزلا فأبرزن لما قمن يحجبن دونها تضوع طيبا بطن نعمان إذا مشت يخبئن أطـــراف الــبنان مـن التـــقى
خرجن من التنعيم معتمرات يلبين للرحمن مؤتجرات وكن بأن يلقينه حذرات نواعم لاشعثا ولا غبرات حجابا من القسي والحبرات به زينب في نسوة عطرات ويخرجن شطر الليل معتجرات
فلما أنصت سعيد لهذه الأبيات قال: هذا والله مما يلذ استماعه.
ثم تابع المنشد:
وليست كأخرى وسعت جيب درعها وغالت ببان المسك وجفاً مرجلا وقامت ترائي بين جميع فأفتنت وأبدت بنات الكف للجمرات على مثل بدر لاح في الظلمات برؤيتها من راح من عرفات
وبعض الرواه ينسب الأبيات الثلاثة الأخيرة إلي سعيد ولا أظن ذلك صحيحا، لأنها تكمل الصورة التي رسمها الشاعر لهؤلاء اللائي خرجن معتمات يبغين المثوبة والأجر ويقارن بينهن وبين من خرجن للفتنة وعرض محاسنهن.
معارف سعيد بن المسيب
أثر عن سعيد بن المسيب معرفته بكثير من المعارف السائدة في عصره، وإن كانت معرفته بالفقه قد غلبت على ما سواها إلا أن المراجع قد ذكرت له جوانب من العلوم قد شارك فيها، وكان له فيها رأي يرجع إليه، ومن ذلك معرفته بالأخبار والأنساب وكانت العرب تهتم بهذا اللون من المعارف وتحافظ به على أنسابها وأيامها، وقد كان معروفا عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أنه أعرف الناس بالأنساب، وقد تطور هذا اللون من المعرفة إلي أن صار يعرف بعلم التاريخ، فكان العلم بالأخبار يشمل أنساب العرب، وأيامها وأحداثها، ونظرا لأن الأنساب كانت تحتل مكانة خاصة عند العرب، فسموا هذا اللون من المعرفة بعلم النسب، ورجل مثل سعيد قرشي ومن علماء المدينة بل شيخ علمائها قد حصل من المعرفة بتاريخ قومه وأيامهم وأنسابهم ما لا يسع العالم من أمثاله الجهل به.
إلا أنه كان يرى أن بعض الناس يتخذون من المعرفة بالأنساب وسيلة للكشف عن سوءات بعض القبائل، فآثر البعد عن هذا العلم والانصراف عنه كلية، لأن رأى فيه إشاعة لروح التفاخر والعصبية التي رفضها الإسلام، وقد يفهم هذا المعنى من رده على من جاء يطلب إليه أن يعلمه النسب، قال يحيي بن عبيد الله جئت سعيد بن المسيب، فسلمت عليه، فرد علي فقلت: علمني النسب.
فقال: أنت تريد أن تساب الناس؟ من أنت؟
قلت أنا يحيي بن طلحة، فضمني إليه، وقال: إئت محمداً ابني فإن عنده ما عندي، إنما هي شعوب وقبائل وبطون وعمائر وأفخاذ وفصائل.
ومما روي عنه في ذلك أنه قال: كان ولد نوح ثلاثة. والناس كلهم ولد نوح. فسام أبو العرب وفارس والروم واليهود والنصارى، وحام أبو السودان من المشرق إلي المغرب والسند والهند والنوبة والزنج والبربر وغيرهم، ويافث أبو الصقالبة والترك واللان والخزر ويأجوج ومأجوج.
تعبير الرؤى
روت كتب السير أن سعيد بن المسيب كان ذا مقدرة فائقة على تعبير الرؤى، وقد روى ابن سعد أن سعيدا أخذ علم تعبير الرؤى عن أسماء بنت أبي بكر، وأن ابن سيرين قد أخذ علمه في تعبير الرؤى عن سعيد.
وقد عرف عنه مقدرته على تعبير الرؤى فكان الناس يتجهون إليه يسألونه عن تفسير لرؤاهم، ولم يقتصر ذلك على عامة الناس فقط، بل كان الحكام يحاولون أن يعرفوا منه تفسيرا لرؤياهم، وإن كانوا يبعثون إليه من يعرف منه ذلك.
ومن ذلك ما رواه ابن سعد بسنده إلي عمر بن حبيب قال: كنت جالسا عند سعيد بن المسيب يوما، وقد ضاقت على الأشياء، ورهقني دين، فجلست إلي ابن المسيب، ما أدري أين أذهب. فجاءه رجل، فقال: يا أبا محمد إني رأيت رؤيا.
قال: ما هي؟
قال: رأيت كأني أخذت عبد الملك بن مروان فأضجعته إلي الأرض، ثم بطحته، فأوتدت في ظهره أربعة أوتاد.
قال: ما أنت رأيتها.
قال: بلى أنا رأيتها.
قال: لا، أخبرك أو تخبرني.
قال: ابن الزبير رآها، وهو بعثني إليك.
قال: لئن صدقت رؤياه، قتله عبد الملك بن مروان. وخرج من صلب عبد الملك أربعة كلهم يكون خليفة.
يقول عمر بن حبيب راوي المجلس، فدخلت إلي عبد الملك بن مروان بالشام، فأخبرته بذلك عن سعيد بن المسيب.
سره، وسألني عن سعيد وعن حاله، فأخبرته، وأمر لي بقضاء ديني وأصبت منه خيرا.
ومما يتصل بالرؤيا السابقة أن رجلا جاءه فقال: رأيت كان عبد الملك بن مروان يبول في قبلة النبي أربع مرات.
فقال: إن صدقت رؤياك، قام من صلبة أربعة خلفاء.
وكانت له تأويلات عجيبة فيما يقص عليه من رؤى، فقد جاءه رجل فقال: إني أراني أبول في يدي.
فقال: اتق الله فإن تحتك ذات محرم، فتبين له أن بينه وبين امرأته رضاع.
ومن أقواله في ذلك: الرطب في زمانه رزق، والتمر في الرؤيا رزق والكيل في النوم ثبات في الدين.
وجاءه مرة رجل فقال: إني رأيت كأني جالس في الظل فقمت إلي الشمس.
فقال: والله لئن صدقت رؤياك لتخرجن من الإسلام.
فقال: يا أبا محمد، إني أراني أخرجت حتى أدخلت في الشمس.
قال: تكره على الكفر.
فخرج الرجل في زمان عبد الملك بن مروان في الجيش، ولم ينجب، وكان يتمنى أن يكون له ولد، وقد رأى أنه قد
طرح في حجره بيض.
فسأل سعيدا عن رؤياه، فقال له: الدجاج عجمي، فأطلب نسبا إلي العجم، فتزوج الرجل غير عربية فولد له ولد.
هذه بعض تأويلات سعيد للرؤيا التي عرضت عليه، وهي كما ترى تنبئ عن معرفة بهذا اللون من العلم الذي يقوم على قوة الملاحظة وربط الأشياء بعضها ببعض، وقضية تعبير الرؤيا أمر ذكره القرآن الكريم بالنسبة لرؤيا سيدنا إبراهيم. ورؤيا سيدنا يوسف، ورؤيا ملك مصر الذي فسرها له يوسف عليه السلام.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يسأل أصحابه عمن رأى رؤيا ثم يفسرها، أو يقص رؤيا رآها ويفسرها لأصحابه.
وعلماء النفس المعاصرين يقولون إن الأحلام ما هي إلا من عمل العقل الباطن، وهي تعبير عن أمور تتعلق بها نفس الشخص أو يشغله أمرها فيرى في المنام ما يشغله في اليقظة.
ولكن علماء المسلمين لهم في الرؤيا تفصيلات أخذوها من الكتاب والسنة، والأمثال العامة، تجد في كتب السنة جزءا خاصا بالرؤيا يسمونه كتاب الرؤيا وينقسم الكتاب إلي أبواب وهناك أحاديث كثيرة تناولت الرؤيا بالتفصيل، وقد اعتمد العلماء عليها وعلى ما جاء في القرآن حينما تعرضوا لتعبير الرؤيا، ومن الأحاديث التي تحدثت عن الرؤيا ما رواه أبو هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان آخر الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا
والرؤيا ثلاثة: رؤيا بشرى من الله عز وجل، ورؤى مما يحدث الإنسان نفسه، ورؤيا من تحزين الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فلا يحدث به، وليقم وليصل، قال أبو هريرة والقيد في المنام ثبات في الدين، والغل أكرهه".
والعلماء الذين اشتغلوا بتأويل الرؤيا بنوا تفسيرهم على بعض ما جاء في القرآن الكريم أو ما جاء في السنة أو الأمثال العامة كما استندوا فيه إلي دلالات القرآن أنهم قالوا: الحبل يعبر بالعهد لقوله تعالى:
{ وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ } (آل عمران ،الآية:103) .
والسفينة تعبر بالنجاة لقول الله سبحانه:
{فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ ٱلسَّفِينَةِ} (العنكبوت،الآية:114) .
والخشب يعبر بالنفاق لقوله تعالى:
{ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } (المنافقون،الآية:4) .
والحجارة تعبر بالقسوة لقوله سبحانه وتعالى:
{ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } (البقرة،الآية:74).
والمريض بالنفاق لقوله تعالى:
{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } (البقرة،الآية:10) .
والبيض يعبر بالنساء لقوله سبحانه وتعالى:
{ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } (الصافات،الآية:49) .
وكذلك باللباس لقوله سبحانه وتعالى:
{ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ } (البقرة،الآية:187) .
وأكل اللحم النيئ يعبر بالغيبة لقوله سبحانه وتعالى:
{ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } (الحجرات،الآية:12) .
وأما ما استندوا فيه إلي دلالة الأحاديث، فمن ذلك الغراب يعبر بالرجل الفاسق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه فاسقا، والفأرة تعبر بالمرأة الفاسقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها فويسقة، والقوارير تعبر بالنساء
لقوله صلى الله عليه وسلم: "يا انجشة رويدك سوقا بالقوارير" والضلع يعبر بالمرأة لقوله صلى الله عليه وسلم "إن المرأة خلقت من ضلع"
أما التأويل بالأمثال فمن ذلك: الصائغ يعبر بالكذاب، لقولهم أكذب الناس الصواغون، وحفر الحفرة يعبر بالمكر لقولهم: من حفر حفرة يعبر بالمكر لقولهم: من حفر حفرة وقع فيها، والحاطب يعبر بالنمام لقولهم في الواشي أنه يحطب عليه، ويعبر طول اليد بصنائع المعروف، لقولهم: فلان أطول يدا من فلان، ويعبر الرمي بالحجارة وبالسهم بالقذف، لقولهم رمى فلانا بفاحشة، ويعبر غسل اليد باليأس عما يأمل لقولهم: غسلت يدي عنك.
وهناك تأويل بالأسماء أيضا، كمن رأى رجلا يسمى راشدا يعبر بالرشد، وإن كان يسمى سالما يعبر بالسلامة. ومن أراد المزيد من ذلك فليرجع شرح السنة للإمام البغوي ج12 ص302ـ353 فقد أورد من هذا الباب كثيرا من التأويلات وإذا ما تتبعنا بعض ما يراه الناس تبين لنا حقيقة ما قرره العلماء المسلمون في شأن الرؤيا.
فقد حدثني فضيلة الشيخ احمد حسن الباقوري رحمه الله أنه رأى في المنام رجلا وسيما ذا هيبة يرتدي جبة نظيفة وعمامة وله لحية بيضاء على وجه مشرق فقال له: أنا عمرو بن العاص، بلغ الشيخ الغزالي أن يكف عن التطاول على وأن يخطب في مسجدي وكان هناك في ذلك الوقت محاولات مع الشيخ الغزالي رحمه الله أن يتولى الخطبة في مسجد عمرو.
يقول الشيخ الباقوري، فلما استيقظت طلبت من أهلي أن يتصلوا بالشيخ الغزالي فلم يعثروا على الرقم، وبينما نحن نحاول العثور على الرقم إذا بالتليفون يدق، وإذا بالشيخ الغزالي يتحدث فقلت له: إن لك عندي رسالة وأريد أن أؤديها. فقال إني كنت في الحج. وأحببت أن أزورك بعد عودتي، ولما جاء بلغته الرسالة التي تلقيتها في المنام.
وقد التقيت بعد ذلك بالشيخ الغزالي ـ رحمه الله ـ وقصصت عليه رؤيا الشيخ الباقوري رحمه الله عليه، فقال لي: لقد كنت أتناول عمرو بن العاص بالنقد تعصبا لآل البيت وما روي في الكتب حول ذلك إلا أني حرمت أن أخوض في ذلك بعد هذه الرؤيا، والرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
القرآن وعلومه
رجل بلغ درجة من العلم والمعرفة أن جعله فقهاء المدينة مقدمهم، وسماه العلماء فيما بعد سيد التابعين لابد أن يكون علمه بالقرآن وما يدور حوله من دراسات علما متميزا أهله إلي احتلال تلك المكانة المرموقة بين علماء عصره ومن جاء بعدهم حتى إن عمر بن عبد العزيز ـ كما قد مر بنا ـ كان إذا أراد أن يتعرف رأيه في قضية من القضايا يبعث إليه من يستطلع رأيه في مجلسه من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجشمه الحضور إليه، إجلالا له وتقديرا لمكانته حتى إنه اعتذر إليه لما أخطأ أحد من أرسلهم إليه ودعاه إلي التوجه إلي عمر، فقال له عمر أخطأ الرسول إنما أردت أن يأتيني برأيك.
فقد كانت معرفة سعيد بالقرآن معرفة شاملة تتناول حفظه وتلاوته والتعبد به، وفهمه والوقوف على أحكامه وأوامره ونواهيه، وإدراك مراميه، إلي جانب معرفته بأسباب نزول الآيات، والناسخ والمنسوخ حتى يتمكن من استنباط الأحكام، وهو الفقيه الذي اعترف العلماء بإمامته، إلي جانب معرفته بعلوم القراءات، وقد قرأ على علماء الصحابة كأبي هريرة وابن عباس كما ذكر صاحب كتاب غاية النهاية في طبقات القراء. أنه روى عن عمر وعثمان وسعيد بن زيد، وبلغ من إتقانه لعلم القراءات أن أخذ عنه أشهر علماء التابعين من بعده وهو محمد بن شهاب الزهري.
علم القراءات
وقد رويت عنه قراءات لبعض الآيات تلقاها العلماء بالقبول ومن الأمثلة على ذلك الآية السادسة من سورة المائدة التي تقول
{ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (المائدة،الآية:6 ) .
فإن القراءة المشهورة لكلمة "ليطهركم" بفتح الطاء وتشديد الهاء، ولكن سعيدا قرأها بتسكين الطاء وفتح الهاء هكذا "ليطهركم". وكذلك قراءته للآية السابعة والخمسين من سورة الأنعام التي تقول:
{ قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ ٱلْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَٰصِلِينَ }
( الأنعام،الآية:56) .
فإن القراءة المشهورة هي "يقص" بالصاد ولكن سعيدا قرأ "يقضي" بالضاد من القضاء، ويشهد لقراءته أن الآية في معنى الحكم والقضاء ألصق، حيث يقول صدرها "إن الحكم إلا لله" ويقول آخرها "وهو خير الفاصلين" وكل هذه الملابسات ترجح قراءة سعيد، وبخاصة أن ابن مسعود قرأ: { إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ ٱلْحَقَّ } (الأنعام ،الآية:57) .
أسباب النزول
أسباب النزول أحد فروع علوم القرآن، التي لابد للفقيه والمفتي أن يلم بها، لأن هذا اللون من المعرفة يعين الفقه والمفتي على إصدار الحكم الصحيح على بعض القضايا التي تعرض له، وكثير من آيات القرآن لها أسباب نزول، وبخاصة ما يتعلق ببعض الأحكام، أو الأحداث التي تقع وينزل الوحي متحدثا عنها. ونجد في أسباب النزول، ومنها كتاب أسباب النزول للواحدي، وكتاب لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي.
وقد نقل الدكتور هاشم جميل في كتابه فقه الإمام سعيد بن المسيب ما تداولته كتب التفسير منسوبا إلي سعيد بن المسيب حول أسباب النزول، وقد حصر ذلك في ثلاثة مواضع الأول الآية 226 من سورة البقرة التي تقول:
{ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (البقرة،الآية:226) .
نقل عن سعيد أنه قال "كان الإيلاء من أضرار الجاهلية، كان الرجل لا يريد المرأة، ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف أن لا يقربها أبدا، وكان يتركها لا أيما ولا ذات بعل، فجعل الله تعالى الأجل أربعة أشهر. ونزلت الآية تحمي المرأة من هذا الإجحاف الذي كان يقع عليها في الجاهلية، وليحذر المسلمين من الوقوع في هذا الخطأ الظالم.
الثاني حول قوله تعالى في سورة النساء الآية 65:
{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } (النساء،الآية:65) .
فقد اختصم الزبير ابن العوام وحاطب بن أبي بلتعة في من يسقى أولا، واحتكما إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن يسقى الأعلى ثم الأسفل.
والثالث في سورة الليل الآيتين 19ـ20 يقول تعالى:
{ وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ } * { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ } (الليل ، الآية :19-20)
فقد نزلتا في أبي بكر حينما قال لأمية بن خلف أتبيعني بلالا؟ فقا