الوالدان، وما أدراك ما الوالدان..
الوالدان، اللذان هما سبب وجود الإنسان، ولهما عليه غاية الإحسان.. الوالد بالإنفاق.. والوالدة بالولادة والإشفاق..
فللّه سبحانه نعمة الخلق والإيجاد، ومن بعد ذلك للوالدين نعمة التربية والإيلاد.
يقول حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ثلاث آيات مقرونات بثلاث، ولا تقبل واحدة بغير قرينتها..
1- وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [التغابن:12]، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه.
2- وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ [البقرة:43]، فمن صلى ولم يزكِّ لم يقبل منه.
3- أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14]، فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه.
ولأجل ذلك تكررت الوصايا في كتاب الله تعالى والإلزام ببرهما والإحسان إليهما، والتحذير من عقوقهما أو الإساءة إليهما، بأي أسلوب كان، قال الله تعالى: وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [النساء:36]، وقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً [العنكبوت:8]. وقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14].
فوضحت هذه الآيات ما للوالدين من جميل عظيم، وفضل كبير على أولادهما، خاصة الأم، التي قاست الصعاب والمكاره بسبب المشقة والتعب، من وحامٍ وغثيان وثقل وكرب، إلى غير ذلك مما ينال الحوامل من التعب والمشقة، وأما الوضع: فذلك إشراف على الموت، لا يعلم شدته إلا من قاساه من الأمهات.
وفي سنة رسول الله جاء التأكيد على وجوب بِرّ الوالدين والترغيب فيه، والترهيب من عقوقهما.
ومن ذلك: ما صح عن رسول الله أنه قال: { رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما } [رواه الطبراني في الكبير، وصححه العلامة .].
وروى أهل السنن إلا الترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: { جاء رجل إلى رسول الله فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبويّ يبكيان، فقال رسول الله : "ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما" }.
وروى الإمام أحمد في المسند وابن ماجة - واللفظ له - عن معاوية بن جاهمة السلمي: { أنه استأذن الرسول في الجهاد معه، فأمره أن يرجع ويَبرَ أُمَّه، ولما كرر عليه، قال : "ويحك.. الزم رجلها... فثمّ الجنة" }.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: { جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله ! من أحقُّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمّـك"، قال: ثم من؟ قال: "أمّك"، قال: ثم من؟ قال "أمّـك"، قال ثم من؟ قال: "أبوك" }. وهذا الحديث مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، وذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية، وجاءت الإشارة إلى هذا في قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14].
وصح عن رسول الله أنه قال: { ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديوث. وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنّان بما أعطى } [رواه النسائي وأحمد والحاكم].
وروى الإمام أحمد بسند حسن عن معاذ بن جبل قال: { أوصاني رسول الله بعشر كلمات قال: "لا تشرك بالله شيئاً، وإن قتلت وحرّقت، ولا تعقّنَّ والديك، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك.." } إلى آخر الحديث.
وكما أن بر الوالدين هو هديُ نبينا محمد فهو كذلك هدي الأنبياء قبله قولاً وفعلاً، وقد سبق بيان هدي نبينا محمد في ذلك من قوله. أما من فعله فإنه لما مرّ على قبر والدته آمنة بنت وهب بالأبواء حيث دفنت - وهو مكان بين مكة والمدينة - ومعه أصحابه وجيشه وعددهم ألف فارس، وذلك عام الحديبية، فتوقف وذهب يزور قبر أمه، فبكى رسول الله - بأبي هو وأمي - وأبكى من حوله، وقال.
هذا إبراهيم خليل الرحمن أبو الأنبياء وإمام الحنفاء عليه السلام يخاطب أباه بالرفق واللطف واللين - مع أنه كان كافراً - إذ قال: (يا أبت) وهو يدعوه لعبادة الله وحده، وترك الشرك، ولما أعرض أبوه وهدده بالضرب والطرد، لم يزد على قوله: سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً [مريم:47].
وأثنى الله على يحيى بن زكريا عليهما السلام فقال تعالى: وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً [مريم:14].
إلى غير ذلك من أقوال النبيين عليهم السلام التي سجلها كتاب الله تعالى.
وهكذا كان السلف الصالح من هذه الأمة أحرص الناس على البر بوالديهم.
ومن ذلك أن أبا هريرة كان إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أمه فقال: السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك السلام يا ولدي ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيراً، فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيراً.
أما عبد الله بن مسعود فقد طلبت والدته في إحدى الليالي ماء، فذهب ليجيء بالماء، فلما جاء وجدها نائمة، فوقف بالماء عند رأسها حتى الصباح، فلم يوقظها خشية إزعاجها، ولم يذهب خشية أن تستيقظ فتطلب الماء فلا تجده.
وها هو ابن الحسن التميمي رحمه الله يهمُّ بقتل عقرب، فلم يدركها حتى دخلت في جحر في المنزل، فأدخل يده خلفها وسد الجحر بأصابعه، فلدغته، فقيل له: لم فعلت ذلك؟ قال: خفت أن تخرج فتجيء إلى أمي فتلدغها.
أما ابن عون المزني فقد نادته أمه يوماً فأجابها وقد علا صوته صوتها ليسمعها، فندم على ذلك وأعتق رقبتين.
وعقوق الوالدين له صور عديدة ومظاهر كثيرة قد تخفى على بعض الناس، ومن ذلك:
- أن يترفع الابن عن والديه ويتكبر عليهما لسبب من الأسباب، كأن يكثر ماله، أو يرتفع مستواه التعليمي أو الاجتماعي ونحو ذلك.
ومن العقوق أن يدعهما من غير معيلٍ لهما، فيدعهما يتكففان الناس ويسألانهم.
ومن العقوق أن يقدم غيرهما عليهما، كأن يقدم صديقه أو زوجته أو حتى نفسه.
ومن العقوق أن يناديهما باسمهما مجرداً إذا أشعر ذلك بالتنقص لهما وعدم احترامهما وتوقيرهما. وغير ذلك.
أما بعد :
أيها الاخوة المؤمنون: يقيم الإسلام دعائم مجتمعه على أسس راسخة وقواعد ثابتة تمتد في أعماق النفس البشرية وتمتزج بمشاعرها وعواطفها الأصيلة متأثرة في ذلك كله بعقيدة راسخة تستقر في قلب المسلم، ليكون بناء الأمة الإسلامية بناء قويا متينا .
وأقرب العواطف وأشدها تأثيرا في النفس هي عاطفة الأبوة والأمومة، فإنها العاطفة التي تضم بين حنانها الوليد في مراحل نموه، فيشعر بدفء عواطف الحب والرحمة والشفقة حتى يشب ويترعرع، وتواصل سيرها معه يافعا ورجلا وشيخا، ومن روابط هذه العواطف يكون بناء الأسرة المسلمة القوية الصالحة .
وإذا كان شعور الإنسان يتطلع دائما إلى المستقبل، ويتدفق حيوية، وطموحا نحو الجديد من الزوج والذرية، ويجد دافعا قويا إلى ذلك بعامل الفطرة، فإن الإسلام لا يشدد في أن يوصي الوالدين بالأولاد، لأن ذلك أمر مركوز في فطرة الإنسان، فالوالدان يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد، إلى التضحية بكل شي في سبيلهم حتى بالذات، وكما تمتص النبتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، وكما يمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشرة خاوية ، كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين ، فإذا هم شيخوخة فانية إن أمهلهما الأجل للشيخوخة ، ولكنهما مع كل ذلك سعيدان كل السعادة .
ولا عجب بعد ذلك ، أن تأتي كلمات الله تعالى في كتابه توصي الأبناء بالأباء وتحرك عندهم مشاعر الرحمة في القلوب لتنظر قليلا إلى الوراء ، إلى أيام سلفت لها مع آبائها وأمهاتها وهي تشقى وتتعب وتمرض من أجل هذا الوليد ، ومن ثم يقرن الله سبحانه وتعالى هذه الوصية ببر الوالدين بعبادة الله سبحانه ويعتبرها قضاء مبرما وأمرا لازما يمتثله المسلم ، لأنه أمر من الله سبحانه العليم الخبير ، وشأن المسلم دائما وأبدا أن يقوم بكل عمل أو تصرف ، عبادة لله تعالى وامتثالا لأمره .
قال الله سبحانه: وقضى ربك ألا تعبد إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً .
ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك وإلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أنابإلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون .
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ، قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً .
ومن ثم أوجب الإسلام على الأبناء جملة حقوق لآبائهم وأمهاتهم:
أولهما الإحسان إليهما وبرهما عرفانا بحقهما عليه ، ثم المعاملة الحسنة والكلمة الطيبة الرقيقة وعدم الضجر والتأفف ]فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً ويتتبع ذلك ، التواضع ولين الجانب: واخفض لهما جناح الذل من الرحمة والدعاء لهما: وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ، والوفاء لهما وصلة أهل ودهما ،فمن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه .
وجاءت أحاديث نبي الرحمة والهدى تفصل ذلك البر وتبين أهم الحقوق: ((فقال لمن سأله يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحبتي ؟ قال: أمك . قال: ثم من ؟ قال: أمك . قال: ثم من؟ قال: أمك . قال: ثم من ؟ قال: أبوك )). ومهما فعل هذا الوالد من البر والطاعة فإنه لن يكافئ أمه ولن يؤدي حقها كاملا : فقد رأى ابن عمر رجلا يمانيا يطوف بالبيت وهو يحمل أمه وراء ظهره ويقول :
إني لها بعيرُها المذللُ إن أذعرت ركابُها لم أذعر
ثم قال : يا بن عمر : أترى أني جزيتها ، قال : لا ، ولا بزفرة واحدة .
وعقوق الوالدين سبب العقوبة العاجلة في الدنيا ، فعن أبي بكر قال : قال رسول الله يقول: ((كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات)).
وعنه : ((ما من ذنب أجدر من أن يعجل لصاحبه العقوبة مع ما يدخر له من البغي وقطيعة الرحم)).
وبين النبي أن دعوة الوالدين مستجابة فقال: (( ثلاث دعوات مستجابات لهن لا شك فيهن : دعوة المظلوم ، ودعوة المسافر ، ودعوة الوالدين على ولدهما )).
وعقوق الوالدين من أكبر الكبائر والذنوب: قال : (( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاث : قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور )).
وقال : (( ثلاثة لا ينظر إليهم يوم القيامة : العاق لوالدين ، ومدمن الخمر ، والمنان في عطائه ، وثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق والديه ، والديوث ، والرجلة من النساء ))، وقال : (( إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه ، قيل يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه ؟ قال بسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه )) .
فيا أيها المؤمنون: لا تنسوا فضل آبائكم وأمهاتكم عليكم ، انظروا إلى أمهاتكم حين يلدن كم يتألمن ويصرخن، ثم انظروا إليهن بعد ذلك : كم يسهرن وكم يجزعن ، وانظروا إلى آبائكم كيف يكدحون في الحياة ويتعبون من أجل تربية الصغار ويعلمهم ورعاية شؤونهم وكونوا على ثقة بأن الحياة جزاء ومكافأة فمن أحسن منكم إلى أبويه وحنا عليهما وبرهما رزقه الله أولاد يحنون عليه ويبرونه ، ومن عق والديه عوقب بأولاد يعقونه وينكرون فضله ويسيئون إليه وقد قال : (( بروا آبائكم تبركم أبناؤكم )).