مجلس في ذكر التوبة و الحث عليها قبل الموت و ختم العمر بها و التوبة وظيفة العمر و هي خاتمة مجالس الكتاب
خرج الإمام أحمد و الترمذي و ابن حبان في صحيحه [ من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله عز و جل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ] و قال الترمذي حديث حسن دل هذا الحديث على قبول توبة الله عز و جل لعبده ما دامت روحه في جسده لم تبلغ الحلقوم و التراقي و قد دل القرآن على مثل ذلك أيضا قال الله عز و جل : { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم و كان الله عليما حكيما } و عمل السوء إذا انفرد يدخل فيه جميع السيئات صغيرها و كبيرها و المراد بالجهالة الإقدام على السوء و إن علم صاحبه أنه سوء فإن كل من عصى الله فهو جاهل و كل من أطاعه فهو عالم و بيانه من وجهين : أحدهما : أن من كان علما بالله تعالى و عظمته و كبريائه و جلاله فإنه يهابه و يخشاه فلا يقع منه مع استحضار ذلك عصيانه كما قال بعضهم : لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى ما عصوه و قال آخر : كفى بخشية الله علما و كفى بالإغترار بالله جهلا و الثاني : أن من آثر المعصية على الطاعة فإنما حمله على ذلك جهله و ظنه أنها تنفعه عاجلا باستعجال لذتها و إن كان عنده إيمان فهو يرجو التخلص من سوء عاقبتها بالتوبة في آخر عمره و هذا جهل محض فإنه تعجل الإثم و الخزي و يفوته عز التقوى و ثوابها و لذة الطاعة و قد يتمكن من التوبة بعد ذلك و قد يعاجله الموت بغتة فهو كجائع أكل طعاما مسموما لدفع جوعه الحاضر و رجا أن يتخلص من ضرره بشرب الذرياق بعده و هذا لا يفعله إلا جاهل و قد قال تعالى في حق الذين يؤثرون السحر : { و يتعلمون ما يضرهم و لا ينفعهم و لقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق و لبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون * و لو أنهم آمنوا و اتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون } و المراد أنهم آثروا السحر على التقوى و الإيمان لما رجوا فيه من منافع الدنيا المعجلة مع علمهم أنهم يفوتهم بذلك ثواب الآخرة و هذا جهل منهم فإنهم لو علموا لآثروا الإيمان و التقوى على ما عداهما فكانوا يحرزون أجر الآخرة و يأمنون عقابها و يتعجلون عز التقوى في الدنيا و ربما وصلوا إلى ما يأملونه في الدنيا أو إلى خير منه و أنفع فإن أكثر ما يطلب بالسحر قضاء حوائج محرمة أو مكروهة عند الله عز و جل و المؤمن المتقي يعوضه الله في الدنيا خيرا مما يطلبه الساحر و يؤثره مع تعجيله عز التقوى و شرفها و ثواب الآخرة و علو درجاتها فتبين بهذا أن إيثار المعصية على الطاعة إنما يحمل عليه الجهل و لذلك كان كل من عصى الله جاهلا و كل من أطاعه عالما و كفى بخشية الله علما و بالإغترار به جهلا و أما التوبة من قريب : فالجمهور على أن المراد بها التوبة قبل الموت فالعمر كله قريب و من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب و من مات و لم يتب فقد بعد كل البعد كما قيل :
( فهم جيرة الأحياء أما قرارهم ... فدان و أما الملتقى فبعيد )
فالحي قريب و الميت بعيد من الدنيا على قربه منها فإن جسمه في الأرض يبلى و روحه عند الله تنعم أو تعذب و لقاؤه لا يرجى في الدنيا
( مقيم إلى أن يبعث الله خلقه ... لقاؤك لا يرجى و أنت قريب )
( تزيد بلى في كل يوم و ليلة ... و تنسى كما تبلى و أنت حبيب )
و هذان البيتان سمعهما داود الطائي رحمه الله من امرأة في مقبرة تندب بهما ميتا لها فوقعتا من قلبه فاستيقظ بهما و رجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة فانقطع إلى العبادة إلى أن مات رحمه الله فمن تاب قبل أن يغرغر فقد تاب من قريب فتقبل توبته و روي عن ابن عباس في قوله تعالى : { يتوبون من قريب } قال : قبل المرض و الموت وهذا إشارة إلى أفضل أوقات التوبة و هو أن يبادر الإنسان بالتوبة في صحته قبل نزول المرض به حتى يتمكن حينئذ من العمل الصالح و لذلك قرن الله تعالى التوبة بالعمل الصالح في مواضع كثيرة من القرآن و أيضا فالتوبة في الصحة و رجاء الحياة تشبه الصدقة بالمال في الصحة و رجاء البقاء و التوبة في المرض عند حضور إمارات الموت يشبه الصدقة بالمال عند الموت فكأن من لا يتوب إلا في مرضه قد استفرغ صحته و قوته في شهوات نفسه و هواه و لذة دنياه فإذا أيس من الدنيا و الحياة فيها تاب حينئذ و ترك ما كان عليه فأين توبة هذا من توبة من يتوب من قريب و هو صحيح قوي قادر على عمل المعاصي فيتركها خوفا من الله عز و جل و رجاء لثوابه و إيثارا لطاعته على معصيته دخل قوم على بشر الحافي و هو مريض فقالوا له : على ماذا عزمت ؟ فقال : عزمت أني عوفيت تبت فقال له رجل منهم : فهلا تبت الساعة فقال : يا أخي أما علمت أن الملوك لا تقبل الأمان ممن في رجليه القيد و في رقبته الغل إنما يقبل الأمان ممن هو راكب الفرس و السيف مجرد بيده فبكى القوم جميعا و معنى هذا أن التائب في صحته بمنزلة من هو راكب على متن جواده و بيده سيف مشهور فهو يقدر على الكر و الفر و القتال و على الهرب من الملك و عصيانه فإذا جاء على هذه الحال إلى بين يدي الملك ذليلا له طالبا لأمانه صار بذلك من خواص الملك و أحبابه لأنه جاءه طائعا مختارا له راغبا في قربه و خدمته و أما من هو في أسر الملك و في رجله قيد و في رقبته غل فإنه إذا طلب الأمان من الملك فإنما طلبه خوفا على نفسه من الهلاك و قد لا يكون محبا للملك و لا مؤثرا لرضاه فهذا مثل من لا يتوب إلا في مرضه عند موته و الأول بمنزلة من يتوب في صحته و قوته و شبيبته لكن ملك الملوك أكرم الأكرمين و أرحم الراحمين و كل خلقه أسير في قبضته لا يعجزه هارب و لا يفوته ذاهب و مع هذا فكل من طلب الأمان من عذابه من عباده أمنه على حال كان إذا علم منه الصدق في طلبه
( الأمان الأمان و زري ثقيل ... و ذنوبي إذا عددت تطول )
( أوبقتني و أوثقتني ذنوبي ... فترى لي إلى الخلاص سبيل )
و قوله عز و جل : { و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن و لا الذين يموتون و هم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما } فسوى بين من تاب عند الموت و من مات من غير توبة و المراد بالتوبة عند الموت التوبة عند انكشاف الغطاء و معاينة المحتضر أمور الآخرة و مشاهدة الملائكة فإن الإيمان و التوبة و سائر الأعمال إنما تنفع بالغيب فإذا كشف الغطاء و صار الغيب شهادة لم ينفع الإيمان و لا التوبة في تلك الحال و روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال : لا يزال العبد في مهل من التوبة ما لم يأته ملك الموت بقبض روحه فإذا نزل ملك الموت فلا توبة حينئذ
و بإسناده عن الثوري قال : قال ابن عمر : التوبة مبسوطة ما لم ينزل سلطان الموت و عن الحسن قال : التوبة معروضة لابن آدم ما لم يأخذ الموت بكظمه و عن بكر المزني قال : لا تزال التوبة للعبد مبسوطة ما لم تأته الرسل فإذا عاينهم انقطعت المعرفة و عن أبي مجلز قال : لا يزال العبد في توبة ما لم يعاين الملائكة و روي أيضا في كتاب الموت بإسناده عن أبي موسى الأشعري قال : إذا عاين الميت الملك ذهبت المعرفة و عن مجاهد نحوه و عن حصين قال : بلغني أن ملك الموت إذا غمز وريد الإنسان حينئذ يشخص بصره و يذهل عن الناس و خرج ابن ماجه حديث [ أبي موسى مرفوعا قال : سألت النبي صلى الله عليه و سلم : متى تنقطع معرفة العبد من الناس ؟ قال : إذا عاين ] و في إسناده مقال و الموقوف أشبه و قد قيل : إنه إنما منع من التوبة حينئذ لأنه إذا انقطعت معرفته و ذهل عقله لم يتصور منه ندم و لا عزم فإن الندم و العزم إنما يصح مع حضور العقل و هذا ملازم لمعاينة الملائكة كما دلت عليه الأخبار و قوله صلى الله عليه و سلم في [ حديث ابن عمر : ما لم يغرغر ] يعني إذا لم تبلغ روحه عند خروجها منه إلى حلقه فشبه ترددها في حلق المحتضر بما يتغرغر به الإنسان من الماء و غيره و يردده في حلقه و إلى ذلك الإشارة في القرآن بقوله عز و جل : { فلولا إذا بلغت الحلقوم * و أنتم حينئذ تنظرون * و نحن أقرب إليه منكم و لكن لا تبصرون } و بقوله عز و جل : { كلا إذا بلغت التراقي } و روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن الحسن قال : أشد ما يكون الموت على العبد إذا بلغت الروح التراقي قال : فعند ذلك يضطرب و يعلو نفسه ثم بكى الحسن رحمه الله تعالى
( عش ما بدا لك سالما ... في ظل شاهقة القصور )
( يسعى عليك بما اشتهيـ ... ت لدى الرواح و في البكور )
( فإذا النفوس تقعقعت ... في ضيق حشرجة الصدور )
( فهناك تعلم موقنا ... ما كنت إلا في غرور )
و اعلم أن الإنسان ما دام يأمل الحياة فإنه لا يقطع أمله في الدنيا و قد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذاتها و شهواتها من المعاصي و غيرها و يرجيه الشيطان بالتوبة في آخر عمره فإذا تيقن الموت و أيس من الحياة أفاق من سكرته بشهوات الدنيا فندم حينئذ على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه و طلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب و يعمل صالحا فلا يجاب إلى شيء من ذلك فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت و قد حذر الله في كتابه عباده من ذلك ليستعدوا للموت قبل نزوله بالتوبة و العمل الصالح قال الله تعالى : { أنيبوا إلى ربكم و أسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون * و اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة و أنتم لا تشعرون * أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله } سمع بعض المحتضرين عند احتضاره يلطم على وجهه و يقول : { يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله } و قال آخر عند احتضاره : سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي و قال آخر عند موته : لا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرتني و قال الله تعالى : { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها } و قال الله تعالى : { و أنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق و أكن من الصالحين * و لن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها } و قال الله تعالى : { و حيل بينهم و بين ما يشتهون } و فسره طائفة من السلف منهم عمر بن عبد العزيز رحمه الله : بأنهم طلبوا التوبة حين حيل بينهم و بينها قال الحسن : اتق الله يا ابن آدم لا يجتمع عليك خصلتان سكرة الموت و حسرة الفوت و قال ابن السماك : احذر السكرة و الحسرة أن يفجأك الموت و أنت على الغرة فلا يصف واصف قدر ما تلقى و لا قدر ما ترى قال الفضيل : يقول الله عز و جل : ابن آدم إذا كنت تتقلب في نعمتي و أنت تتقلب في معصيتي فاحذرني لا أصرعك بين معاصي و في بعض الإسرائيليات : ابن آدم احذر لا يأخذك الله على ذنب فتلقاه لا حجة لك مات كثير من المصرين على المعاصي على أقبح أحوالهم و هم مباشرون للمعاصي فكان ذلك خزيا لهم في الدنيا مع ما صاروا إليه من عذاب الآخرة و كثيرا ما يقع هذا للمصرين على الخمر المدمنين لشربها كما قال القائل :
( أتامن أيها السكران جهلا ... بأن تفجاك في السكر المنية )
( فتضحى عبرة للناس طرا ... و تلقى الله من شر البرية )
سكر بعض المتقدمين ليلة فعاتبته زوجته على ترك الصلاة فحلف بطلانها ثلاثا لا يصلي ثلاثة أيام فاشتد عليه فراق زوجته فاستمر على ترك الصلاة مدة الأيام الثلاث فمات فيها على حاله و هو مصر على الخمر تارك الصلاة كان بعض المصرين على الخمر يكنى أبا عمرو فنام ليلة و هو سكران فرأى في منامه قائلا يقول له :
( جد بك الأمر أبا عمرو ... و أنت معكوف على الخمر )
( تشرب صهباء صراحية ... سال بك السيل و لا تدري )
فاستيقظ منزعجا و أخبر من عنده بما رأى ثم غلبه سكره فنام فلما كان وقت الصبح مات فجأة قال يحيى بن معاذ : الدنيا خمر الشيطان من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموتى نادما مع الخاسرين و في حديث خرجه الترمذي مرفوعا [ ما من أحد يموت إلا ندم قالوا : و ما ندامته ؟ قال : إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد و إن كان مسيئا ندم أن لا يكون استعتب ] إذا ندم المحسن عند الموت فكيف يكون حال المسيء غاية أمنية الموتى في قبورهم حياة ساعة يستدركون فيها ما فاتهم من توبة و عمل صالح و أهل الدنيا يفرطون في حياتهم فتذهب أعمارهم في الغفلة ضياعا و منهم من يقطعها بالمعاصي قال بعض السلف : أصبحتم في أمنية ناس كثير يعني أن الموتى كلهم يتمنون حياة ساعة ليتوبوا فيها و يجتهدوا في الطاعة و لا سبيل لهم إلى ذلك
( لو قيل لقوم ما مناكموا طلبوا ... حياة يوم ليتوبوا فاعلم )
( ويحك يا نفس ألا تيقظ ... ينفع قبل أن تزل قدمي )
( مضى الزمان في ثوان و هوى ... فاستدركي ما قد بقي و اغتنمي )
الناس في التوبة على أقسام : فمنهم : من لا يوفق لتوبة نصوح بل ييسر له عمل السيئات من أول عمره إلى آخره حتى يموت مصرا علها و هذه حالة الأشقياء و أقبح من ذلك : من يسر له في أول عمره عمل الطاعات ثم ختم له بعمل سيء حتى مات عليه كما في الحديث الصحيح : [ إن أحدكم ليعمل عمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه و بينها إلا ذراع ثم يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ] و في الحديث الذي خرجه أهل السنن : [ إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين عاما ثم يحضره الموت فيجور في وصيته فيدخل النار ] ما أصعب الإنتقال من البصر إلى العمى و أصعب منه الضلالة بعد الهدى و المعصية بعد التقى كم من وجوه خاشعة وقع على قصص أعمالها عاملة ناصبة تصلى نارا حامية كم من شارف مركبه ساحل النجاة فلما هم أن يرقى لعب به موج الهوى فغرق الخلق كلهم تحت هذا الخطر قلوب العباد بين اصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء قال بعضهم : ما العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا
( يا قلبي إلام تطالبني ... بلقا الأحباب و قد رحلوا )
( أرسلتك في طلبي لهم ... لتعود فضعت و ما حصلوا )
( ما أحسن ما علقت بهم ... آمالك منهم لو قد فعلوا )
( سلم و اصبر و اخضع لهم ... كم قبلك مثلك قد قتلوا )
و قسم يفني عمره في الغفلة و البطالة ثم يوفق لعمل صالح فيموت عليه و هذه حالة من عمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه و بينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها
المصدر / من كتاب عوارف المعارف / من المكتبة الشاملة /