:D
ردود على أدلة التحريم
واما أدلة التحريم التي تمسك بها القائلون بتحريم الغناء والاستماع إليه فلقد ناقشها القائلون بالإباحة مناقشة علمية وحللوها تحليلا بحيث يزيل اللبس والإشكال ويضع النقاط على الحروف فقالوا:
1- إن الآية الكريمة التي تمسك بها القائلون بالتحريم ﴿ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله﴾([101]).
فقالوا عن لهو الحديث أنه الغناء مستشهدين برواية عن ابن مسعود وغيره من الصحابة إلا أن العلماء المحققين ذهبوا إلى ضعف الرواية مستدلين بما جاء في سنن الترمذي أن هذه الآية نزلت في مثل حديث (لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام([102]) كما قال الإمام الترمذي نفسه بعد إيراده لهذا الحديث.
ثم إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث لأنه يشتري كتب الأعاجم رستم واسفنديار فكان يجلس بمكة فإذا قالت قريش إن محمدا قال كذا ضحك منه وحدثهم باحاديث ملوك الفرس ويقول: حديثي هذا أحسن من حديث محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقيل كان يشتري المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته. فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه.
وهذا الرأي قد ذكره أكثر المفسرين([103]).
ثم إذا أمعنا النظر في منطوق الآية لوجدنا أن احتجاجهم يبطل بها لأن فيها ﴿ليضل عن سبيل الله بغير علم﴾ وهذا القيد متفق عليه كما مر من كلام ابن حزم رضي الله عنه في تفسيرها.
2- وأما الآية الكريمة الثانية التي احتجوا بها وهي قوله تعالى ﴿أفمن هذا الحديث تعجبون﴾... ﴿وأنتم سامدون﴾([104]).
ويقول ابن عباس هو الغناء بلغة حمير . فنقول : ينبغي أن يحرم الضحك وعدم البكاء أيضا لأن الآية تشتمل عليه فإن قيل: إن ذلك مخصوص بالضحك على المسلمين لإسلامهم فهذا أيضا مخصوص بأشعارهم في معرض الاستهزاء بالمسلمين وكما قال تعالى ﴿والشعراء يتبعهم الغاوون﴾([105]) وأراد به شعر الكفار ولم يدل على ذلك تحريم نظم الشعر في نفسه([106]).
3- وكذلك الآية الثالثة التي احتجوا بها وهي قوله تعالى ﴿واستفزز من استطعت منهم بصوتك﴾([107]).
فقالوا: هو الغناء وعن ابن عباس قال: كداع إلى المعصية ومن المعلوم أن الغناء من أعظم الدواعي إلى المعصية ولهذا فسر صوت الشيطان به وقول مجاهد إنه الغناء الباطل . ورواية أخرى عنه: صوته هو المزامير([108]).
نقول: وذهب أكثر المفسرين إلى القول بصوتك: وصوته كل داع يدعو إلى معصية الله تعالى لذلك فلا وجه للتخصيص بالغناء فقط وإنما بكل وسيلة تكون سببا إلى معصية الله.
4- قال الحافظ أبو بكر البغدادي: من تمسك بتسمية أبي بكر مزمار الشيطان فقد اخطأ وأساء الفهم من وجوه منها:
تمسكه بقول أبي بكر مع رد النبي صلى الله عليه وآله وسلم له قوله وزجره عن عنفه لهن ورجوع أبي بكر إشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنها : إعراض هذا القائل عن إقراره صلى الله عليه وآله وسلم واستماعه الذي لا احتمال فيه إلا أنه يقتضي الحل والإطلاق إلى لفظ أبي بكر ومحال أن يعتقد أبو بكر تحريم أمر حضره المصطفى وأقره عليه مع علم الصديق أنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يقر على باطل والصحيح أنه يفهم من قول أبي بكر ما يليق به وهو أنه رأى ضرب الدف وإنشاء الشعر لعبا من جملة المباح الذي ليس فيه عبادة مما حمله على تنزيه حضرته صلى الله عليه وآله وسلم عن صورة اللعب ورأى أن الاشتغال بالذكر والعبادة في ذلك الموطن الكريم أولى فزجر عنه احتراما لا تحريما فرد عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنكاره لأمرين:
إحداهما: أن لا يعتقد تحريم ما أبيح من شرعه توسعة لأمته ورفقا بها وتفسحا في بعض الأوقات.
والثاني: إظهار الشارع مكارم الأخلاق وسعة الصدر لأهله وأمته فتستريح ببعض المباح فيكون انشط لهم في العودة إلى وظائف العبادة([109]).
5- وأما حديث الجارية السوداء التي نذرت أن تضرب الدف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتتغنى وكان ذلك بحضرة جملة من أصحابه إلى أن حضر عمر رضي الله عنه فكفت فقال صلى الله عليه وآله وسلم «إن الشيطان ليخاف منك يا عمر»([110]) فادعوا بأنه دليل على تحريم الغناء، لأن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم شبه المغني بالشيطان ولكن الحقيقة غير هذا لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أظهر لأصحابه منقبة من مناقب عمر([111]) هذا من جهة ومن جهة ثانية أن الجارية السوداء كانت قد نذرت بضرب الدف والتغني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن هو عاد سالما من سفره والرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وافقها فالإقرار دليل الجواز حيث لا نذر في معصية الله كما جاء في الحديث الشريف «ثم إنه كان جالسا يسمع لها هو وأبو بكر وعثمان وعلي ولم ينكر عليها فهب أن سيدنا عمر لم يأت يومها فهل يقرها على معصية الله أم أنه يؤدي الأمانة أمام بعض الصحابة ويكتمها أمام الآخرين!!! حاش لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يفعل هذا».
6- وكذلك دعواهم بأن الصحابة والتابعين لم يسمعوا الغناء ولا جلسوا في مجالسه ولم يثبت عنهم أبدا والجواب عن هذا نقول: إن كثيرا من الأخبار جاءت في الكتب الموثوقة – كالإصابة في تمييز الصحابة والاستيعاب في معرفة الأصحاب، وكذلك نيل الأوطار – وذكروا طرفا من أخبار بعض الصحابة الذين كانوا يسمعون الغناء ولكن ليس في مجالس الفحش والمعصية كما جاء في الإصابة لابن حجر في ترجمة حسان بن عكرمة عن ابن عباس قال: مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحسان ومعه أصحابه وسماطين وجارية له يقال لها سيرين وهي تغنيهم فلم يأمرهم ولم ينههم([112]) وكذلك من مر معنا ذكره من الصحابة والتابعين في الحديث عن الغناء والسماع عند الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.
الإمام الشعبي الفقيه الشهير الرواية الموثوق به كان يجعل من داره مكانا لابن سريج يغني فيه عندما استقدمه أهل العراق من الحجاز([113]).
ورب سائل يسأل فيقول: إن الآيات الواردة في سورة الشعراء والتي يقول فيها ربنا عز وجل ﴿والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا...﴾([114]).
أليس هذا دليلا واضحا على تحريم الشعر والقول به؟
وللإجابة على هذا التساؤل نقول: إن المفسرين ذكروا أن هذه الآيات إنما نزلت في الكفار كما ذكر ذلك الإمام القرطبي في تفسيره.
حيث روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه حينما نزلت هذه الآيات جاء حسان وكعب بن مالك وابن رواحة يبكون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : يا نبي الله أنزل الله تعالى هذه الآية وهو تعالى يعلم أنا شعراء فقال (اقرؤوا ما بعدها) ﴿إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ أنتم ﴿وانتصروا من بعد ما ظلموا﴾ أنتم ولا تذكروا الآباء والأمهات([115]).
وأما الإشكال الآخر فهو الذي ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا»([116]).
قال علماؤنا إن فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ذلك الشاعر لما علم من حاله فلعل هذا الشاعر كان مما عرف من حاله أنه اتخذ الشعر طريقا للكسب فيفرط في المديح إذا أعطى وفي الهجو والذم إذا لم يعط فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم ولا خلاف في أن كل من كان على مثل هذا الحال فكل ما يكسبه بالشعر حرام وكل ما يقوله من ذلك حرام عليه ولا يحل الإصغاء إليه بل يجب الإنكار عليه ثم يتابع الإمام القرطبي قوله في تأويل معنى الحديث (لأن يمتلئ) وهذا الحديث أحسن ما قيل فيه وفي تأويله إنه الذي قد غلب عليه الشعر وامتلأ صدره منه دون علم سواه يخوض به في الباطل ويسلك به مسالك لا تحمد عقباها كالمكثر اللفظ والهذر والغيبة والنميمة وقبيح القول([117]).
ولقد تابعه في هذا القول الإمام ابن حجر في الفتح حيث قال في حديث (لأن يمتلئ) ولكن وجهه عندي أن يمتلئ قلبه من الشعر حتى يغلب عليه فيشغله عن القرآن وعن ذكر الله فيكون الغالب عليه واما إذا كان القرآن والعلم الغالبين عليه فليس جوفه ممتلئا من الشعر.
ولعل ما جاء في الإجابة للإمام الزركشي يوضح الإشكال أكثر فأكثر حيث جاء فيه أن السيدة عائشة رضي الله عنها استدركت حديث أبي هريرة رضي الله عنه (لأن يمتلئ) فقالت: لم يحفظ أبو هريرة الحديث إنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لأن يمتلئ جوف احدكم قيحا ودما خير له من أن يمتلئ شعرا هجيت به)([118]).([119])
ولدى التأمل يتضح لنا من خلال هذا الاستدراك أن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن لون معين من الشعر وهو فيما يتعلق بهجائه صلى الله عليه وآله وسلم أو ما يكون مشابها للهجاء ومن المعلوم أن هجاء الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو هجاء للدعوة الإسلامية وهذا اللون لا خلاف في تحريمه([120]).
وفي هذا القدر كفاية لمن يخضع لقول الله وقول رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والله الهادي إلى سواء السبيل والحمد لله رب العالمين
ملاحظة ( كلمة الغناء ) تعني الانشاد وتحسين الصوت ا الغناء المعهود في ايامنا لذا وجب التنبيه للقارئ الكريم