:D
التعظيم بين العبادة والأدب
يخطئ كثير من الناس في فهم حقيقة التعظيم وحقيقة العبادة ، فيخلطون بينهما خلطاً
بيناً ويعتبرون أن أي نوع من أنواع التعظيم هو عبادة للمعظم فالقيام وتقبيل اليد
وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم بسيدنا ومولانا ، والوقوف أمامه في الزيارة بأدب
ووقار وخضوع ، كل
ذلك غلو عندهم يؤدي إلى العبادة لغير الله تعالى ، وهذا في الحقيقة جهل وتعنت لا
يرضاه الله ولا رسوله وتكلف تأباه روح الشريعة الإسلامية .
فهذا آدم أول الجنس الإنساني ، وأول عباد الله الصالحين من هذا الجنس أمر الله
تعالى الملائكة بالسجود له إكراماً وتعظيماً لما آتاه من علمه وإعلاماً لهم باصطفائه من بين
سائر مخلوقاته ، قال تعالى : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ
أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ) إلى آخر الآية . وفي آية
أخرى قال : ( أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ) .. وفي آية أخرى : (
فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ) .. فالملائكة عليهم
السلام عظموا من عظمه الله ، وإبليس تكبر أن يسجد لمن خلق من طين ، فهو أول من
قاس الدين برأيه وقال : أنا خير منه ، وعلل ذلك بعلة خلقه من نار وخلق آدم من طين
وأنف من تكرمته عليه واستنكف من السجود له ، فهو أول المتكبرين ولم يعظم من
عظمه الله ، فطرد من رحمة الله لتكبره على هذا العبد الصالح وهو عين التكبر على
الله لأن السجود إنما هو لله إذ هو بأمره ، وإنما جعل السجود له تشريفاً وتكريماً له
عليهم وكان من الموحدين فلم ينفعه توحيده.
ومما جاء في تعظيم الصالحين قال الله تعالى في حق يوسف عليه السلام : (وَرَفَعَ
أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً) تحية وتكريماً وتشريفاً وتعظيماً له عليهم، والسجود
من إخوته له إلى الأرض يدل عليه قوله تعالى : وخروا . ولعله كان جائزاً في شرعهم ،
أو كسجود الملائكة لآدم عليه السلام تشريفاً وتعظيماً وامتثالاً لأمر الله تأويلاً لرؤيا
يوسف إذ رؤيا الأنبياء وحي .
أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال الله تعالى في حقه : إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً
وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ،
وقال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ
الآيات الثلاث . وقال تعالى : لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً ،
ونهى عن التقدم بين يديه بالقول وسوء الأدب بسبقه بالكلام ، قال سهل بن عبد الله : لا
تقولوا قبل أن يقول ، أي لا تتكلموا قبله ، وإذا قال فاستمعوا له وأنصتوا ، ونهوا
عن التقدم والتعجل بقضاء أمر قبل قضائه فيه ، وأن يفتوا بشيء في ذلك من قتال أو
غيره من أمر دينهم إلا بأمره ، ولا يسبقوه به ، ثم وعظهم وحذرهم من مخالفة ذلك فقال :
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، قال السلمي : اتقوا الله في إهمال حقه وتضييع حرمته
، إنه سميع لقولكم ، عليم بفعلكم ، ثم نهاهم عن رفع الصوت فوق صوته والجهر له
بالقول كما يجهر بعضهم لبعض ويرفع صوته ،وقيل: كما ينادي بعضهم بعضاً باسمه ،
قال أبو محمد مكي : أي لا تسابقوه بالكلام وتغلظوا له بالخطاب ولا تنادوه باسمه نداء
بعضكم لبعض ولكن عظموه ووقروه ونادوه بأشرف ما يحب أن ينادى به يا رسول
الله ، يا نبي الله ، وهذا كقوله في الآية الأخرى : لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء
بَعْضِكُم بَعْضاً ، وقال غيره : لا تخاطبوه إلا مستفهمين ، ثم خوفهم الله تعالى بحبوط
أعمالهم إن هم فعلوا ذلك وحذرهم منه .. والآية نزلت في جماعة أتوا النبي فنادوه يا
محمد أخرج إلينا ، فذمهم الله تعالى بالجهل ووصفهم بأن أكثرهم لا يعقلون .
يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه ، وما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله ولا
أجل في عيني منه ، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له ، ولو سئلت أن
أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه . رواه مسلم في الصحيح ، كتاب الإيمان ،
(باب كون الإسلام يهدم ما قبله) .
وروى الترمذي عن أنس أن رسول الله كان يخرج على أصحابه من المهاجرين
والأنصار وهم جلوس ، فيهم أبو بكر وعمر ، فلا يرفع أحد منهم إليه بصره إلا أبو بكر
وعمر، فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما ، ويبتسمان إليه ويبتسم لهما .
وروى أسامة بن شريك قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حوله كأنما على
رؤوسهم الطير ،
وفي صفته إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير ، وقال عروة بن مسعود
حين وجهته قريش عام القضية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى من تعظيم
أصحابه له ما
رأى وأنه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه وكانوا يقتتلون عليه ولا يبصق بصاقاً ، ولا
يتنخم نخامة إلا تلقوها بأكفهم فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم ، ولا تسقط منه شعره إلا
ابتدروها وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه
النظر تعظيماً له ، فلما رجع إلى قريش قال : يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه
وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه ، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في
أصحابه ، وفي رواية : إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم محمداً أصحابه ، وقد
رأيت قوماً لا يسلمونه أبداً.
وأخرج الطبراني وابن حبان في صحيحه عن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال:
((كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسنا الطير ، ما يتكلم منا متكلم
، إذ جاءه أناس
فقالوا : من أحب عباد الله إلى الله تعالى ؟ قال : أحسنهم خلقاً)) .. كذا في الترغيب (ج4
ص187) ، وقال : رواه الطبراني برجال محتج بهم في الصحيح .
وأخرج أبو يعلى وصححه عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال :
((لقد كنت أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمر ، فأؤخره سنتين من
هيبته)) .. وأخرج البيهقي عن الزهري قال :
((حدثني من لا أتهم من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أو
تنخم ابتدروا نخامته
فمسحوا بها وجوههم وجلودهم،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم تفعلون هذا ؟
قالوا : نلتمس به
البركة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحب أن يحبه الله ورسوله فليصدق
الحديث وليؤد الأمانة ولا يؤذ جاره)) ..
كذا في الكنز (ج8 ص228).
والحاصل أن هنا أمرين عظيمين لابد من ملاحظتهما ، أحدهما : وجوب تعظيم النبي
صلى الله عليه وسلم
ورفع رتبته عن سائر الخلق ، والثاني إفراد الربوبية واعتقاد أن الله تبارك وتعالى منفرد
بذاته وصفاته وأفعاله عن جميع خلقه ، فمن اعتقد في مخلوق مشاركة الباري سبحانه
وتعالى في شيء من ذلك فقد أشرك – كالمشركين الذين كانوا يعتقدون الألوهية للأصنام
واستحقاقها العبادة ، ومن قصر بالرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء من مرتبته فقد
عصى أو كفر .
وأما من بالغ في تعظيمه صلى الله عليه وسلم بأنواع التعظيم ، ولم يصفه بشيء من
صفات الباري عز وجل فقد أصاب الحق وحافظ على جناب الربوبية والرسالة جميعاً ،
وذلك هو القول الذي لا إفراط فيه ولا تفريط .
وإذا وجد في كلام المؤمنين إسناد شيء لغير الله تعالى يجب حمله على المجاز العقلي ،
ولا سبيل إلى تكفيرهم ، إذ المجاز العقلي مستعمل في الكتاب والسنة .