:D
هذا عيدنا
د. عبد المجيد البيانوني
بعد رمضان من كلّ عام ، يهلّ هلال العيد ، يحمل للصائمين العابدين المتّقين بسمة الأنس والرضا ، وتهنئة القبول والندى ، ورسالة الخير والهدى ، كما حمل هلال رمضان رسالة التربية والتغيير ، وترقية الإيمان والتجديد ، فشحذت الهمم والعزائم ، وفعلت فعلها في القلوب والضمائر ، وأحيت الأرواح ، وطهّرت السرائر ..
إنّ العيد مباركة سماويّة علويّة لمن سمت أرواحهم حتّى نافست الملائكة الأطهار في سموّها وشفافيّتها ، وتكرمة إلهيّة عاجلة ، لمن فاز في مدرسة الصيام ، فقوي إيمانه ، وازداد يقينه ، وتوقّدت عزيمته ، وسمت همّته ، وتحرّرت إرادته من أسر أهوائه وشهواته .. إنّه انتصار المعاني على المظاهر ، والحقائق على الصور والرسوم ..
لمّا قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة كان لهم يومان يلعبون فيهما ، فقال : { إنّ الله قد أبدلكم يومين خيراً منهما ؛ يوم الفطر ، ويوم الأضحى } (1) .
فأبدل الله هذه الأمّة بيومي اللعب واللهو يومي الذكر والشكر ، والمغفرة والعفو . ففي الدنيا للمؤمنين ثلاثة أعياد : عيد يتكرّر كلّ أسبوع ، وعيدان يأتيان في كلّ عامٍ مرّة مرّة ، من غير تكرّر في السنة ، فأمّا العيد المتكرّر ، فهو يوم الجمعة ، وهو عيد الأسبوع ، وهو مترتّب على إكمال الصلوات المكتوبات ..
وأمّا العيدان اللذان يأتي كلّ واحدٍ منهما في العام مرّة واحدة ؛ فأحدهما : عيد الفطر من صوم رمضان ، ويأتي بعد أداء الركن الثالث من أركان الإسلام ، فإذا أدّى المسلمون ما افترض الله عليهم من صيام شهر رمضان ، واستوجبوا من الله بمنّه وفضله المغفرة والعتق من النار ، حقّ لهم أن يفرحوا بعيدٍ يجتمعون فيه على شكر الله تعالى وذكره ، وتكبيره على ما هداهم إليه ..
والعيد الثاني : عيد النحر ، وهو أكبر العيدين وأفضلهما ، وهو مرتّب على إكمال الحجّ ، الذي هو الركن الرابع من أركان الإسلام ومبانيه ، فإذا وقف الحجّاج بعرفة ، ومنّ الله عليهم بمغفرة ذنوبهم ، وعتق رقابهم من النار حقّ لهم أيضاً ، وحقّ لأهل الأمصار معهم أن يفرحوا بعيدٍ يجتمعون فيه على شكر الله تعالى وذكره ، وتكبيره على ما هداهم إليه ، والتقرّب إليه بالنسك ، وهو إراقة دماء القرابين ..
وفي كلا العيدين تتأكّد زيارة القبور للاعتبار والاتّعاظ ، وزيارة الأقَارب والأرحام ، والتواصل بين الأصحاب والجيران ..
لقد راد الله تعالى لأمّة الإسلام أن تكون متميّزة في كلّ شيء .. في عقيدتها وعباداتها ، وفي تشريعاتها وأحكامها ، وفي أخلاقها وعاداتها ، وفي ترويحها عن نفسها ولهوها ..
إنّ العيد في الإسلام عبادة يتقرّب بها المؤمنون إلى ربّهم ، ولكنّها عبادة من لونٍ آخر ؛ إنّه عبادة تجمع بين استجمام الأرواح ، وبهجة النفوس ، ونشاط الأجساد ، وشكر الله على عظيم نعمه ومننه .. إنّه فرح بفضل الله ورحمته : قُل : بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ، هو خير ممّا يجمعون (58) يونس .
قال مخنف بن سليم رضي الله تعالى عنه _وهو معدود من الصحابة _ : "الخروج يوم الفطر يعدل عمرة ، والخروج يوم الأضحى حجّة" .
وعن سعد بن أوس الأنصاري ّ رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { إذا كان يوم عيد الفطر ، وقفت الملائكة على أبواب الطرق ، فنادوا : اغدوا يا معشر المسلمين ! إلى ربّ كريم ، يمنّ بالخير ، ثمّ يثيب عليه الجزيل ؛ لقد أمرتم بقيام الليل فقمتم ، وأمرتم بصيام النهار فصمتم ، وأطعتم ربّكم ، فاقبضوا جوائزكم ، فإذا صلّوا نادى منادٍ : إلا إنّ ربّكم قد غفر لكم ، فارجعوا راشدين إلى رحالكم ، فهو يوم الجائزةِ ، ويسمّى ذلك اليوم في السماء : يوم الجائزة } (2) .
فهذه أعياد المسلمين في الدنيا وكلّها عند إكمال طاعة الله تعالى ، ونيلهم لما وعدهم الله تعالى من الفضل والمثوبة ..
ومن ثمّ فإنّ المؤمن حين يفرح بالعيد لا تستبدّ به الفرحة ، فينسى التنقيب عن أولئك البائسين المحرومين .. إنّه لا ينسى اليتيم المحروم من عطف الأبوّة الحانية ، ولا ينسى البائس الفقير ، وقد حرم سعة العيش ورغده ، ولا ينسى الأرملة التي حرمت من زوجها ، وتوالت عليها الشدائد والمحن ، ولا ينسى المريض الذي فقد العافية بعدما كان يرفل في بحبوحة ثيابها ، فأصبح حبيساً في سريره ، يتلوّى من مرضه ..
ولا ينسى قبل ذلك كلّه وبعده أولئك المضطهدين في دينهم من إخوانه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، الذين لا جريرة لهم إلاّ أن يقولوا : ربّنا الله ..
إنّ العيد في الإسلام غبطة النفس في الدين والطاعة ، وبهجة الروح في الدنيا والحياة ، ومظهر القوّة والإخاء ، إنّه فرحة بانتصار الإرادة الخيّرة على الأهواء والشهوات ، وبالخلاص والتحرّر من إغواءات شياطين الإنس والجنّ وأحابيلهم ، وهو الرضا المستلذّ بطاعة المولى تبارك وتعالى ، والرجاء الواجف بوعده الكريم بمغفرة الذنوب ، والعتق من النار ..
وإنّ من أراد معرفة أخلاق الأمّة أيّة أمّة .. فلينظر إليها في أفراحها وأعيادها ، إذ تنطلق فيها على فطرتها وسجيّتها ، وتكشف عاداتها عن دخائلها وطبيعة تربيتها ، والأمّة الجادّة ذات الرسالة هي التي تكون في فرحتها سامية في أخلاقها إلى أرفع ذروة ، وتكون في بهجتها متحقّقة بالإخاء إلى أبعد مدى ، فيتجلّى في العيد من توادّها ، وتعاطفها ، وتراحمها ، وصفاء علائقها ما يضفي على العيد من المعاني ما يجلّ عن الوقوف عند المباهج الظاهرة ، والاهتمام بالزينة الفاخرة .. وإنّ الأمّة التي تنسى في غمرة أفراحها هؤلاء وأمثالهم ، لا يصدق عليها أنّها أمّة حيّة فتيّة ، يحقّ لها أن تتباهى بكيانها بين الأمم ، ولا يكتب لها أن تسبق في أيّ مضمار ..
أيّها المؤمنون الصائمون المتّقون الموفّقون ! هذا عيدنا ، وهذه بعض معانيه ، فهل رأيتم في الدنيا عيداً كعيدنا .؟!
1 ـ رواه النسائيّ 3/179/ في العيدين ، وأحمد في المسند 3/103/ و 178 و235 و250 والحاكم في المستدرك ، وصحّحه على شرط مسلم ، ووافقه الذهبيّ ، وكلّهم عن أنس بن مالك رضي الله عنه .
2 ـ رواه الطبرانيّ في الكبير ، كما في الترغيب والترهيب 2/153