:D
من هو السلطان محمد الفاتح الذي ورد مدحه
في حديث رسول الله صَلى اللهُ عليه وسلم :
"لَتُفْتَحَنَّ القسطنطينية وَلَنِعْمَ الأَميرِ أميرَهَا وَنِعْمَ الجَيشُ ذَلِكَ الجَيش"
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين.
أمَّا بعد قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ العنكبوت / 69.
وَقَالَ رَسولُ اللهِ صَلى اللهُ عليه وسلم: "لَتُفْتَحَنَّ القسطنطينية وَلَنِعْمَ الأَميرِ أميرَهَا وَنِعْمَ الجَيشُ ذَلِكَ الجَيش" رواهُ الإمامُ أحمدُ في مُسنَدِهَ والحَاكِمِ في المستَدرَكِ بسند صحيح.
وإِنَّ جميع ما يخبر به رسول اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم عن اللهِ تعالى هو حق وصدق سواء كان من أخبار من قبله من الأمم والأنبياء وبدء الخلق أو مِمَّا أخبَرَ بِهِ عَمَّا يَحْدُثُ في المستقبل في هذه الدنيا وفي الآخِرَةِ أَو مِنَ التَحليلِ والتَحريمِ لبعضِ أفعال وأقوال العباد.
ومِمَّا أخبَرَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم عن حصوله في هذه الدنيا فتح القسطنطينية وقد مدح الجيش الإسلامي الفاتح وقائده وهو السلطان محمد الثاني.
السلطان محمد الثاني:
ولد السلطان محمد خان الثاني ابن السلطان مراد الثاني سنة 835 ﻫ وقد جلس على سرير الملك بعد وفاة أبيه بعهد منه إليه سنة 855 ﻫ وعمره تسع عشرة سنة وخمسة أشهر وكان سلطانًا جليلاً من أعظم الملوك جهادًا وأقواهم إقدامًا وأكثرهم توكلاً على اللهِ واعتمادًا.
لَمَّا صَارَ هَذا المُجاهِدُ سلطانًا خرج إلى قتال صاحب "قرمان" فخاف منه وصالحه. ولم يكن بآسيا الصغرى ما هو خارج عن دائرة سلطانه إلا جزءًا قليلاً من بلاد قرمان ومدينة "سينوب" ومملكة "طرابزون" الرومية فأصبحت مملكة الروم الشرقية قاصرة على مدينة القسطنطينية وضواحيها.
وأخذ السلطان محمدٍ يستعد لتتميم ما بقي ولم يَكُنْ لَهُ هَمٌّ إلا فَتْحُ المدينةِ العظمى "قسطنطينية" تنفيذًا لإخبار الرسول صلى اللهُ عليه وسلم وحبًا بنشر هذا الدِّينِ العظيم، وكانت من أعظم البلدان وأمنعها أحَاطَ البَحْرُ بها من كُلِ صَوبٍ إلا الطرف الغربي وهو مُحَصَنٌ بثلاثةِ أسوارٍ. وأظهَرَ السلطَانُ محمد أولاً المسالمة مع الملك صاحب القسطنطينية وذلك سنة ثمانمائة وستة وخمسين فطلب من طرف بلاده أرضًا مقدار جلد ثور فاستقله وقال: ما يفعل به أعطوه ما طلب. فأرسل جماعةً من البنائين فاختاروا الخليج الداخل من بحر "نطيش" وهو البحر الأسود فَقدّوا جلد الثور قَدًّا رقيقًا وبسطوهُ على وجهِ الأرضِ على أضيقِ مَحَلٍ من فَمِ الخليج فبنوا سورًا منيعًا شامخًا، وركب فيه المدافع وكان اسمها "أوربان" كانت تقذف بكرات من حجر زنة كل وَاحِدٍ منها إثنا عشر قنطارًا إلى مسافة ميل، وبنى في مقابلة ذاك الحصن حصنًا ءاخر وشحنهما بالآلات النارية حتى ضبط فم الخليج فلم يقدر أن يسلكه بعده مركب من مراكب البحر الأسود إلى القسطنطينية وإلى بحر الروم، ثُمَّ ثَنى عزمه إلى مدينة "أدرنة" وأمر بسبك المدافع الكبار والمكاحل.
الفتح العظيم:وبعد أن تكاملت الأسباب والاحتياجات البرية والبحرية نهض السلطان المجاهد بهمة وحزم وعزم في أوائل شهر جمادى الأولى سنة ثمانمائة وسبعة وخمسين بعسكر كثيف وجيش كبير متوكلاً على الله تعالى متوسلاً بسيد البَرية.
وانطلق الجيش إلى جهة القسطنطينية وخيّمَ عليها ونازلها من طرف الشمال وكان عنده أربعمائة مركب قد أنشأها هو وأبوه رحمه الله فأرساها عند الحصن الذي أنشأه وأمر بالمراكب فسحبت إلى البر وقد جعلت تحتها دواليب تجري كالعجلة في البر والبحر، وشحنها بالرجال وساروا في البر مع موافقة ريحٍ شديدة حتى انصبوا إلى الخليج الواقع من طرف "غلطة" فامتلأ الخليج من الأغربة [السفن الصغيرة]، وقربوا بعضها من بعض وربطوها بالسلاسل فصارت جسرًا ممدودًا ومعبرًا للمسلمين وأهل البلد ءامنون من هذه الجهة فلم يحصنوها وإنما كان خوفهم من جهة البحر فحصنوها وغفلوا عن هذه الجهة لأمر أراده اللهُ وَقَدَّرَهُ.
وَشَرَعَ المُسلِمونَ في الحِصارِ مِنَ البَرِ والبَحرِ مُدةَ واحد وخمسين يومًا حتى أعيى المُسلِمونَ أمرَهَا، وَكَانَ أهلُ القسطنطينيةِ استمدوا مِنَ الإفرَنجِ فأمدوهم بجيشٍ عظيمٍ.
وَكَانَ السلطان "محمَّد خان" قَدْ أرسَلَ وزيرَهُ أحمد باشا قبلاً إلى العارف الشيخ "ءاق شمس الدين" وإلى الشيخ "ءاق بيق" يدعوهما للجهاد والحضور معه لفتح القسطنطينية فحضرا وَبَشَرَ الشيخُ شمسُ الدِّينِ الوزيرَ بالنَصرِ والفتحِ إن شاء الله على يد المسلمين في العام نفسه وأنهم يدخلونها من الموضع الفلاني والوزير يكون واقفًا عند السلطان، فبشر الوزير السلطان بذلك.
فلما صَارَ الوقت المعين ولم تفتح القلعة ذهب الوزير إِلى الشيخ فمنعوه من الدخول إِليه فرفع أطناب الخيمة فإذا الشيخ ساجد على التراب يتضرع ويبكي فما رفع الوزير رأسه إلا وقد قام الشيخ على رجليه فَكَبَّرَ وَحَمدَ اللهِ الّذي مَنَّ على المُسلِمينَ بِفَتحِ هَذِهِ المدينةِ، فَنَظَرَ الَوزيرُ إِلى جَانِبِ المَدينَةِ فإذا المُسلمينَ قَد دخلوا بأجمعهم. ولمَّا دَخَلَ السُلطانُ المَدينَةِ نَظَرَ فإذا بِجانِبِهِ وزيره واقفًا عنده وأسرَعَ السُلطَانُ بالتوجهِ إلى كنيستها "أيا صوفيا" فدخلها وطَهرَها وأمر المؤذن فَأُذِنَ لِصَلاَةِ الظُهْرِ وصلى فيها ودعا وحمد الله تعالى وجعلها مسجدًا جامعًا للمسلمين وعين له أوقافًا ورتب له رواتب وسُمِيَت المدينة "اسلامبول".
وبعد فتح المدينة أرسل صاحب "غلطة" مفاتيح قلعتها ففتحت ودخلها المسلمون فسارعوا إلى مسجدها القديم الذي كان بناه مسلمة بن عبد الملك يوم حاصرها وقد صيروه كنيسةً.
وَلَمَّا شاعَ خبر فتح القسطنطينية في الأفاق هابَ السلطان محمدًا ملوك الأرض وأرسل له صاحب مصر والشام وصاحب العجم وصاحب المغرب مراسلات يهنئونه بالفتح.
كان هذا الفتح من أعظم الفتوحات الإسلامية وقد حاوله غير واحد من الخلفاء والسلاطين وصرفوا همتهم وجهدهم وعساكرهم فلم ينالوه.
وقد حاصرها معاوية بن أبي سفيان في خلافة الإمام علي، وحاصرها سفيان بن أوس في خلافة معاوية، وحاصرها مسلمة بن عبد الملك في زمن عمر بن عبد العزيز، وحوصرت في زمن هشام بن عبد الملك، وحاصرها أيضًا أحد قواد الخليفة هارون الرشيد. ولقد خُصَّ هذا الفتحُ لهذا السلطان الجليل لكونه من أعدل الملوك وأحسنهم سيرة وأخلصهم نية وطوية.
وهكذا تحقق حديث رسول الله بعد ثمانمائة عام صلى الله عليه وسلم وفتحت القسطنطينية وكان الفتح على يد قائدٍ عظيمٍ وقد مدحه رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم ومَدَحَ جيشه.
وكان فتح القسطنطينية نهار الأربعاء لعشرين مضت من جمادى الآخرة سنة سبع وخمسين وثمانمائة وغنم المسلمون منها غنائم لم يسمع بمثلها.
ثُمَّ إِنَّ السُلطَانَ محمد طَلَبَ مِنَ الشيخ شمس الدِّين أنْ يُرِيَهُ موضع قبر أبي أيوب الأنصاري فقال الشيخ: إِني شاهدتُ في موضع كذا نورًا فلعل قبره هناك، فجَاءَ إِلى ذلك الموضِعِ وتوجه زمانًا ثُم قال: اجتمعت روحي بروح أبي أيوب وهنأني بالفتح وقال: "يشكر اللهُ سعيكم خلصتموني من ظلمة الكفر"، فأخبرَ السلطان بذلك فحضر بنفسه إلى ذلك الموضع وقال: ألتمس منك يا مولانا الشيخ أن تريني علامة أراها بعيني ليطمئن قلبي فتوجه الشيخ ساعة ثُمَّ قال: احفروا في هذا الموضع وهو من جانب الرأس من القبر مقدار ذراعين فحفروا فظهر عليهم القبر وعليه لوح من الرخام مكتوب عليه أَنَّهُ قَبرُ أبي أيوب الأنصاري ففرح السلطان وقال: فرحي بوجود مثل هذا الشيخ في زماني أكبر من فرحي بفتح القسطنطينية، ثُمَّ أَمَرَ بِبناءٍ قبة وجامع وهو مازال إلى الآن في إسطنبول حيث يشعر الزائر بالبركة هناك.
كان أبو أيوب الأنصاري من أكابر الصحابة، لم يتخلف عن الجهاد حتى عندما تَقَدَمَت بِهِ السِنُ. كان قد خرج مع الجيوش الإسلامية التي خرجت لفتح القسطنطينية زمن معاوية؛ صَبَرَ رضي اللهُ عنه على صعوبات ومشقات الرحلة من المدينة لمحاصرة القسطنطينية.ولكنه لم يلبث أن توفي هناك وقد طلب قبل موتِهِ من المسلمين أن يدنونه قدر الإمكان من القسطنطينية وأن يدفنوه هناك.
وفي سنة 860 غزا السلطان بلاد أنكروس وفتح عدة بلاد، وغزا بعدها بلاد موره وفتحها، ثُمَّ سار إلى جهة سينوب وهي مدينة حصينة على البحر الأسود من أناطولي فاستولى على قسطموني، وسينوب، وطرابزون، ثُمَّ تَوَجَهَ إلى بلاد الكرج فتوغل عسكره فيها وغنموا كثيرًا.
ثُمَّ غَزَا السلطان بلاد بوسنة فاستولى على عامة بلادهم: ثُمَّ استولى على أكثر قلاع بلاد أرنؤد وبنى قلعة هناك وشحنها بالرجال، ثُمَّ على بغدان.
وفي سنة 886 بدا للسلطان محمد خان أن يسافر إِلى بلاد أناطولي فخيم بعساكره ظاهر اسكدار فاتفق أن مرض السلطان. توفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الأول سنة 886 فَحُمِلَ إِلى اسلامبول وصلي عليه في الجامع الذي أنشأه وعمره إحدى وخمسون سنة ومدة ملكه إِحدى وثلاثون سنة وشهرين.