ومن أخلاقهم رضي الله تعالى عنهم : زيارتهم لقبور المسلمين كل قليل عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : (( زُورُوا القُبُورَ فإِنَّها تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَةَ )) .
وإن وهذا الخلق قلّ من يعمل به الآن من الناس ؛ وقع أنهم دخلوا تربة فليس في دخولهم اعتبارٌ وإنما ذلك لأمر عادي كزيارتهم للميت في أول جمعة ،
أو عند تمام الشهر خوفا من تغير خاطر أهل الميت مثلا , لا سيما إن كان لهم عليه حقّ في زيارتهم ولده أو والده لمّا مات وهو غرض آخر أجنبي عمَّا قلناه .
وكان آخر من رأيته عاملا بهذا الخلق سيدي الشيخ محمدٌ بن عنان كان رحمه الله تعالى يزور القرافة كل يوم جمعة , فكان يزور من عرف من الأموات
ومن لم يعرف , وكان عندما يرى القبور يبكى ويقول الذكر الوارد في ذلك ,ثم يقول : ما منهم أحداً إلا وهو يشتي أن يصلي ركعتين ، أو يقول لا إله إلا الله ولو مرة واحدة ، فاستغنموا عمركم
وكان يزيد الرقاشي رحمه الله تعالى إذا زار المقبرة يبكي ويقول : ليت شعري ؛ بأي أعمالكم اغتبطتم ، واستبشرتم !
ثم يصرخ كما يصرخ الثور .
وكان هشام الدُّستُوَائيَّ رحمه الله تعالى إذا زار المقابر ورجع إلى داره يمكث أياما لا يستضيء بسراج , ويقول : أتذكر ظلمة القبر .
وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يزور قبور آبائه من بني أمية ويقول : كأنكم يا آبائي لم تشاركوا أهل الدنيا في لذة ولا نعيم , وكان يقول :
ما أحسن ظواهر هذه المقبور , وإنما الدواهي´`` في بواطنها .
وقد رأى الحسن البصري رحمه الله تعالى رجلاً يضحك في المقابر , فقال له : أما يكفيك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يكره ذلك .
وكان سفيان الثوري رحمه الله تعالى يقول : إن الميت يفتن في قبره سبعة أيام ولذلك استحبوا التصدُّق عنه تلك المدة مساعدةً له حتى يلقن حجته .
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول :مررت على مقبرة , فرأيت شخصا خارجا من قبر وهو يلتهب ناراً من فرقه إلى قدمه , فقال لي يا عبد الله اسقني ماءً فلا أدري أعرفني باسمي ، أم ناداني كما ينادي الرجل من لا يعرفه فأردت أن أسقيه , فقال لي الموكل به : لا تسقه , ولا زال يضربه بالسوط حتى رجع إلى قبره فانطبق عليه.
وكان عطاء السلمي رحمه الله تعالى كثيرا ما يخرج بعد العشاء إلى المقابر فلا يزال يناجيهم إلى الصباح ويرجع . وكان يقول :يا أهل المقابر ؛ متم فوا موتاه ،
وعاينتم أعمالكم فوا عملاه .
وقد مرّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يوماً على مقبرة ففرش رداءه وصلى ركعتين هناك , فقيل له في ذلك !, فقال : ذكرت أهل القبور وقد حيل بينهم وبين
العبادة فأحببت أن أتقرب إلى الله تعالى بركعتين بينهم .
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول :إن أعمالكم تعرضُ على موتاكم فتارة يسرُّون وتارة يحزنون .
وكان كثيراً ما يقول : اللهم ؛ إني أعوذ بك أن أعمل عملاً تًخزي به أمواتي بين الأموات.
وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى إذا حضرة دفن ميت يكاد يغشى عليه ويقول : والله ؛ إن أمراً هذا آخره لحقيقٌ أن يزهد في أوله ويخاف من آخره``
واعلم يا أخي ؛
أنه ليس من أخلاق القوم حفر قبورهم في حال حياتهم أدباً مع الله سبحانه وتعالى
في قوله عز وجل (( وما تدري نفسٌ بأيَّ أرضٍ تموت ))
أي : وتدفن ؛ ولكن قد بلغنا أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى حفر قبره بدير سمعان هو وفتيانه فجعل يحفر ، والفتيان ينقلون التراب حتى فرغ من حفره ؛
فدفن فيه يومَ السابع .
وكذلك قد بلغنا عن رجلين من بني خولان أنهما حفرا قبريهما بباب القرافة بمصر ، ونقشا اسميهما على لوح رخام هناك ,
وأنهما يشهدان أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وقد قرأته أيام سياحتي ولم يكن أحدهم يبني على قبره قبة ، ولا يعمل له مقصورة ،
ولا يزخرن له حائطاً ولا يجعل له في طبقات قبته قمرية خلاف ما حدث من بعض متصوفة زماننا , وربما كان من مال بعض الظلمة
. فاحذر ؛ أيها الأخ الصالح من مثل ذلك , فقد قالوا : كم من ضريح يزار وصاحبه في النار .
وقد رأيت شيخاً من مشايخ العجم باع كتبه وثيابه وأمتعة داره وعمل له قبة وتابوتا وسترا وشخاشيخ ونحو ذلك صرف عليها جملة كثيرة ثم كتب على بابها ```
يقول : قف على الباب خاضعا وأحسن الظن وارتج
فهو باب مـــــــــــجرب لقضاء الحـــــــوائج
وصار كل من رأى تلك القبة وتلك الكتابة يضحك على ذلك الفقير
: ويقول إنه خاف أن لا يعتني به أحد بعد موته فعمل هو ذلك حتى يقال (شيخ) .
وهذا كله غرور وفتح باب للاستهزاء بالصالحين ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
والحمد لله رب العالمين .
منقول من كتاب
تنبه المغترين
للإمام الشعراني
مطبعة
دار البشائر