عن أبي محمَّدٍ عَبدِ الله بنِ عَمرو بْنِ الْعاص رَضي اللهُ عنهما قال:
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
"لا يُؤمِنُ أحَدُكُمْ حتَّى يكُونَ هَواهُ تَبَعاً لِمَا جِئْتُ به". مفردات الحديث:"لا يؤمن": لا يكمل إيمانه، أو لا يصح.
"هواه": ما تحبه نفسه ويميل إليه قلبه ويرغبه طبعه.
"تبعاً": تابعاً له بحيث يصبح اتِّباعه كالطبع له.
"لما جئت به": ما أرسلني الله تعالى به من الشريعة الكاملة.
المعنى العام:المسلم إنسان متكامل: المسلم إنسان تتكامل فيه جوانب الشخصيةالمثالية، فلا تعارض بين قوله وفعله، ولا تناقض بين سلوكه وفكره،
بل هوإنسان يتوافق فيه القلب واللسان مع سائر أعضائه،
كما يتناسق لديه العقل والفكر والعاطفة، وتتوازن عنده الروح والجسد،
ينطق لسانه بما يعتقد، وتنعكس عقيدته على جوارحه،
فتُقَوِّم سلوكَه وتُسَدِّد تصرفاته، فلا تتملكه الشهوة، ولا تطغيه بدعة،
ولاتهوي به متعة، منطلقه في جميع شؤونه وأحواله
شرعُ الله تعالى الحكيم، وهذا ما يقرره رسول الله صلى الله عليه وسلم
عندما ينصب لنا العلامة الفارقة للمسلم المؤمن فيقول:
"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به".حقيقة الهوى وأنواعه: قد يطلق الهوى ويراد به الميل إلى الحقِّ خاصة، ومحبته والانقياد إليه.
ومنهما جاء في قول عائشة رضي الله عنها:
ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.وقد يطلق ويراد به الميل والمحبة مطلقاً،فيشمل الميل إلى الحق وغيره، وهذا المعنى هو المراد في الحديث.
وقد يطلق ويراد به مجرد إشباع شهوات النفس وتحقيق رغباتها، وهذا
المعنى هو المراد عند إطلاق كلمة الهوى، وهوالأكثر في الاستعمال،
وهوالمعنى الذي تضافرت نصوص الشرع على ذمه والتحذير منه
والتنفير عنه، إذ الغالب فيه أن يكون ميلاً إلى خلاف الحق،
وتحقيق مشتهيات الطبع دون مقتضيات الشرع،
فيكون سبيل الضلال والشقاء.
قال الله تعالى مخاطباً داود عليه السلام:
{وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}اتباع الهوى منشأ المعاصي والبدع والإعراض عن الحق: فمن استرسل في شهواته، وأعطى نفسه هواها،
جرته إلى المعاصي والآثام، وأوقعته في مخالفة شرع الله عز وجل،
وفي الحقيقة: ما انحرف المنحرفون، وما ابتدع المبتدعون،
وماأعرض الكافرون الفاسقون والمارقون،
عن المنهج القويم والحق المبين، لعدم وضوح الحق أو عدم اقتناعهم به
_ كما يزعمون _
فالحق واضح أبلج، والباطل ملتبس لجلج، وإنما بدافع الهوى المُتَّبَع،
قال تعالى:
{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ}الهوى المتبع إله يُعْبَد من دون الله عز وجل: إن العبادة هي الانقياد والخضوع، فمن انقاد لهواه وخضع لشهواته فقد
أصبح عبداً لها. وإن الهوى والشهوات لا تزال بالإنسان حتى تتمكن منه
وتسيطر عليه، فلا يصدر في تصرفاته إلا عنها، ولا يأتمر إلا بأمرها،
وإن خالف فكره وعقله، وناقض معرفته وعلمه. وهكذا تجد عَبَدَة الهوى
يغمضون أعينهم عن رؤية الحق، ويصمون آذانهم عن سماعه،
فلا يعرفون استقامة ولا يهتدون سبيلاً. قال ابن عباس رضي الله عنه :
الهوى إله يعبد في الأرض، ثم تلا:
{أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} وقال عليه الصلاة والسلام:
"ما تحت ظل السماء إله يعبد أعظم عند الله تعالى من هوى متبع". أعظم:أي أكثر إثماً لأنه أوسع شراً.
والإنسان بما مُنِح من القوة العاقلة وما أعطي من الاختيار والقدرة
بمَلْكِه أن يخالف هواه ويسيطر على نوازع الشر ويكبتها،
ويجاهد نفسه ويحملها على السمو في درجات الخيروالتقوى فيبوئها
المرتبة اللائقة بها من التكريم والتفضيل،
فإن هو فعل ذلك كان سلوكه عنوان قوته العقلية وبشريته المثالية
وإنسانيته المتكاملة، وإن هو انهزم أمام نوازع الشر واستسلم لهواه
وانحدر في دركات الرذيلة فقد انحط بإنسانيته، وأَسَفَّ بكرامته، فكان
_ذا عنوان حماقته وضعفه،
قال الله تعالى:
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْخَابَ مَنْ دَسَّاهَا}وقال عليه الصلاة والسلام:
"المجاهدُ من جاهدَ نفسه، والعاجزُ من أتبعَ نفسَه هواها، وتمنَّى على الله الأماني".وأما مجاهدة النفس والتمرد على الهوى فهي نتيجة المعرفة الحقة
بالله عز وجل، واستشعار عظمته وإدراك نعمته.
ولايزال العبد يجاهد نفسه حتى ينسلخ كلياً من عبودية الهوى إلى
العبودية الخالصة لله عز وجل، ويكتمل فيه الإيمان،
ويثبت لديه اليقين، ويكون من الفائزين بسعادة الدارين،
قال الله تعالى:
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم: حتى يتحقق لدى المسلم أصل الإيمان، ويسير في طريق بلوغ كماله،
لابد من أن يحب ما أحبه الله تعالى،
محبة تحمله على الإتيان بما وجب عليه منه وما ندب إلى فعله،
وأن يكره ما كرهه الله تعالى،
كراهة تحمله على الكف عما حرم عليه منه وما ندب إلى تركه،
وهذه المحبة لما أحبه الله تعالى والكراهة لما كرهه،
لاتتحققان إلا إذا أحب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم
حباً يفوق حبه لكل شيء، بحيث يضحي في سبيلهما بكل شيء،
ويقدمهما على كل شيء.
وروى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وأهله والناس أجمعين".عنوان المحبة الموافقة والاتباع: المحبة الصحيحة تقتضي متابعة المحب لمن أحب،
وموافقته فيما يحب ويكره، قولاً وفعلاً واعتقاداً،
قال الله تعالى:
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ..}فمن ترك شيئاً مما يحبه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم،
وفعل شيئاً يكرهانه، مع قدرته على فعل المحبوب وترك المكروه،
كان في إيمانه خلل ونقص، عليه أن يسعى لإصلاحه وتداركه،
وكانت محبته دعوى تحتاج إلى بينة.
حلاوة الإيمان: للإيمان أثر في النفوس، وطعم في القلوب،
أطيب لدى المؤمنين من الماء العذب البارد على الظمأ،
وأحلى من طعم العسل بعد طول مرارة المذاق.
وهذه المحبة وذاك الطيب، لا يشعر بهما ولا يجد لذتهما
إلا من استكمل إيمانه، وصدقت محبته
لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم،
وأثمرت في جوانب نفسه، فأصبح لا يحب إلا لله،ولا يبغض إلا لله،
ولايعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله.
روى البخاري ومسلم: عن أنس رضي الله عنه،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ثلاث من كن فيه وجد حلاوةالإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار". حلاوة الإيمان: معناها اللذة في الطاعة.
الاحتكام إلى شرع الله عز وجل والرضا بحكمه: من لوازم الإيمان أن يحتكم المسلم إلى شرع الله عزوجل
في خصوماته وقضاياه، ولا يعدل عنه إلى سواه.
النموذج المثالي: لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النموذج المثالي
في صدق محبتهم لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم،
وحبهم ما يرضيهما وبغضهم ما يسخطهما،
وتقديم محبتهما على كل شيء، وتكييف أهوائهم تبعاً لما جاء به
رسول الله صلى الله عليه وسلم،
حتى بذلوا في سبيل ذلك نفوسهم وأرواحهم وأموالهم،
وقاتلوا عليه آباءهم، وهجروا أزواجهم وعشيرتهم وأوطانهم،
لأنهم كانوا أعرف بحقه وأدرك لفضله صلى الله عليه وسلم.
ما يستفاد من الحديثأنه يجب على المسلم أن يعرض عمله على الكتاب والسنة، ويسعى لأن يكون موافقاً لهما.
من صَدَّق شرع الله تعالى بقلبه وأقر بلسانه وخالف بفعله فهو فاسق،
ومن وافق بفعله وخالف في اعتقاده وفكره فهو منافق،
ومن لبس لكل موقف لَبُوسه فهو زنديق مارق.
من لوازم الإيمان نصرة
سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
والدفاع عن شريعته
والحمد لله رب العالمين