الشيخ البوزيدي دحاح - الجزائر
"المنهج الصوفي هو الحل الأمثل لمشكلات الأمة"
إننا نعتقد يقينا أن المنهاج الصوفي هو الطريق الأمثل للأمة الذي يجب أن تسلكه لتخرج من كبوتها الراهنة إلى الصحوة الإسلامية المنشودة، ولا نقول هذا تعصبا، ولكن هذه حقيقة نطق بها أشد المنكرين عليهم.
ولكن لماذا كان المنهاج الصوفي هو الحل الأمثل؟؛ ?نه منهاج يعتمد على التربية الصوفية بما فيها من تصعيد وتسام وارتفاع فوق الغرائز والشهوات والاعتصام بالمثل والإكبار لها، والفناء والاستشهاد في سبيلها.
إنها تربية فوق ما تعرف الدنيا من تربية وتهذيب، ?نها تنفذ إلى الأعماق وتعمل في الباطن والظاهر، وإنها تربية تشمل الوجدان والضمير والحس، كما تشمل اليد واللسان والجوارح.كذالك كان منهاج الصوفية هو الحل، ?نه يعتمد على الجهاد الشاق العنيف في سبيل الكمال في كل ميدان من ميادين الحياة، إنه جهاد ضد النفس والهوى والجشع والطمع، جهاد يمنح الصوفية عزيمة لا تقهر وإرادة لا تغلب وعزة وإباء وشجاعة نفسية لا أحسب أن شجاعة في الدنيا تطولها أو تسابقها، وينبغي أن نقرر هنا أن المنهاج الصوفي هو الحل للمجتمع الإسلامي والمجتمعات الغربية كذلك، فإنه من المعلوم أن عددا من مفكري الغرب الذين أسلموا كان التصوف بابهم للدخول إلى الإسلام.
وقد شهد أبرز مفكري الغرب الذين أسلموا للتصوف بسلامة منهجهم، ومن هؤلاء الدكتور مراد هوفمان، والذي أسلم عام 1980م حيث أكد في كتابه الإسلام كبديل تلك الحقيقة الناصعة فقال : « إن التصوف الإسلامي كانت له أيادي بيضاء في نشر التقوى بين الطبقات الشعب نظرا لتعمق الصوفية في الإسلام القائم على التقوى إيمانا وتوكلا على الله لا الإسلام المستند إلى القوانين العقلية"، وقال أيضا في كتابه: "يجب أن يعترف بالفضل للطرق التي مكنت للإسلام أن يستمر بقاؤه تحت أقصى الظروف المعروفة كما في الاتحاد السوفياتي سابقا".
ثم يؤكد الدكتور مراد هوفمان أهمية الحل الصوفي في عالم اليوم فيقول : « إنه لمن سفه الرأي أن يظن بعض الناس اليوم أن التصوف في عصر العقلانية لا دور له، فالعكس هو الصحيح".
ثم يختم الدكتور مراد هوفمان كلامه بما يؤكد حتمية الحل الصوفي وأهميته في مجتمع الشرق والغرب على السواء فيقول: "إن الإسلام يشهد موجة متحولة إلى شواطئ الصوفية، والخلفية الكامنة وراء هذا الاتجاه، تتمثل في عقلانية العلوم الغربية وأنظمة المجتمع الغربي التي أنتجت شؤم الإستراتيجية النووية وتخريب الطبيعة وتخلف الشعوب الضعيفة".
أما الدكتور "أنا ماري شمل" أستاذة التصوف، والأديبة الألمانية المسلمة، فترى أن التصوف أقرب إلى نفسية الغرب وأنه سيكون الباب لدخول الإسلام.
وأما المفكر الفرنسي المسلم روجي جارودي، فإنه قد أعلن في كتابه الإسلام دين المستقبل انبهاره بالتصوف، وأعلن تأييده لمحمد إقبال في تعقيبه على الديوان الشرقي حين قال: "يشهد الديوان أن الغرب بعد أن قرف من روحانياته الضعيفة والباردة، أخد يبحث على حرارة صوفية الشرق".
وأما الرئيس البوسني علي عزت بيجوفيتش، فقد أشار في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب إلى الدور الصوفي قائلا : « إن كل مسلم ملتزم هو صوفي بمعنى من المعاني، وأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان في مقدمة الجميع". وقال أيضا في الكتاب نفسه: «لقد كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء صائما متنسكا متصوفا ثم اكتمل الإسلام وتبلور في المدينة المنورة، ففي المدينة تم الامتزاج بين العالم الجواني وعالم الواقع، وبين التنسك والعقل".
ومما سبق نخلص إلى أن الصوفية وحدهم هم المنوط بهم العمل على إعادة المجد الذي فقده المسلمون، والسعي لإيجاده صحوة إسلامية حقيقية، في هذا الوقت الحرج الذي يبحث فيه العالم عن هوية، أخذ الأفراد والجماعات والدول يراجعون أنفسهم من جديد في تحرير موقفهم السابق على هذا الزلزال أو تعديله بما يوافق الموقف الحالي، ولقد رأينا كيف برزت الحركات الدينية من إسلامية ومسيحية ويهودية وبوذية وربما غيرها أيضا محاولة في عنف أن تحتل مركز الصدارة في النشاط السياسي والاجتماعي في هذا العالم الذي أخذ يغير جلده تحت ضغط السياسة ذات التحولات الآخذة في الإسراع، وكذلك وجدنا توجهات قومية وعرقية مدمرة تجول وتصول في كثير من أقطار العالم في شتى القارات في جهد غريب شديد لتحول العالم إلى قبائل وعشائر قرى صغيرة متناثرة في العالم الكبير، وزاد الطين بلة توجه من يسمون من المتحضرين إلى الإباحية التي تسرع إلى تفتيت الأسرة وتحويل الجماعات البشرية إلى أفراد أنانيين لا يشغلهم إلا الشبق والأنانية والفساد، وهذا يعني أن الفساد أخذ يدب في الأرض ويهددها بالخراب والدمار، خصوصا وأن فيها من الأسلحة ما يمكن أن يؤدي إلى هذه النتيجة في أقل من ثانية واحدة.
وكل هذا يعني أن العالم اليوم تهب فيه عواصف هوجاء من التوجهات العنيفة المتناقضة التي يحاول كل منها أن يفرض نفسه على غيره بوصفه الأفضل والأمثل، والقدرة على السيطرة والاستئناف بالموارد الطبيعية التي أخذت تنضب بتضخم هذا العالم لاستغلالها في إشباع حاجات أتباعها وإذلال غيرهم من بني البشر.
في هذا الجو العاصف يحتاج العالم أشد الحاجة إلى عامل آخر ملطف لهذا العنف، قادر على التقريب بين هذه الأهواء المتضاربة المدمرة، وتحقيق نوع من التوازن بينها، يمكن معه أن يحمل البشر على إعادة التفكير في التدمير وإبعاد هاجس العدوان والسيطرة والحقد عن نفوسهم التي توجهت هذه الوجهة الشريرة، هذا العامل عندنا هو التصوف الذي طالما خافته المجتمعات البشرية وحصرته في زاوية صغيرة ضيقة تحد من نشاطه وتقصره على العامة السذج من الناس، في حين أن فيه من الطاقات القوية ما يستطيع معها القيام بدور أكبر بكثير مما انحصر فيه وألجئ إليه، ولنا في هذا الأمر احتجاجات نعدد بعضها فيما يلي:
فأولا، تميز التصوف الإسلامي من أول نشأته بالتسامح الديني الشديد، ومن هذه النماذج الجميلة ما ذكر عن الحارث بن أسد المحاسبي المتوفى سنة 243هـ/857م من أنه في أول شبابه استعرض الفرق الإسلامية كلها لاختيار واحدة ينتمي إليها، فآل به الأمر إلى رفضها كلها بحجة ما بينها من الاختلاف والسب والاتهام الذي ربما يبلغ حد التكفير، ومن هذا اختار أن يسلك طريق الاجتهاد واختيار العقيدة عن طريقه، مع مراقبة النفس ومحاسبتها، فكان ما كان، وخرج على الناس بأول كتاب في التحليل النفسي في العالم كله كتابه: "الرعاية لحقوق الله".
فالتصوف يتوسط العقائد ويجمعها في طريق واحد، يجمع مشتركاتها ويحل مشكلات مختلفاتها في جو من الثقة وحسن النية مع الجميع، ليحقق الطمأنينة والاستقرار في نفوس الأمة الإسلامية التي تعصف الحيرة بشبابها وأطفالها اليوم.
ويقوي هذا كله، أن التصوف لم يحارب مذهبا أو فقها بل اشترط على المنتسبين إليه أن يفعلوا ذلك، وهم فقهاء مفتون في مذهبهم الذي ارتضوه لأنفسهم قبل أن يخطوا هذه الخطوة، وهكذا وجدنا في المجتمعات الصوفية شافعية كالجنيد البغدادي، ومالكية كأبي بكر الشبلي، وكل هؤلاء كانوا يمارسون نشاطهم الروحي مجتمعين بغير أن يقعوا في حبالة الاختلاف والخصومة، هذا مع نص مصنفي الصوفية أنفسهم على أن من تقاليد مجتمعهم إيجاد المعاذير للمخطئين من المنتمين إليهم.
ثانيا، يساعد على قيام التصوف بهذا الدور التوفيقي أن فكرة الحب متأصلة في كيانهم الروحي والثقافي، ويبدأ هذا التوجه بإنكار الذات بوصفه واجبا من واجبات الصوفية حتى يرتفع إلى الحب الإلهي، الذي يعم جميع أنواع الحب، ويضيء سائر الموجودات، ويربطها برباط يجمعها ويوحدها ويحملها على أن تسير وفق فطرة الله التي فطر الناس عليها وقد فاض هذا الحب في قلوب الصوفية.
بهذا التوجه الجميل يسوغ للصوفية أن يقوموا بدورهم العظيم دون ان يخشوا لومة لائم، ويستطيعون به أن يجمعوا الناس حولهم ليشرعوا في تعليمهم الحب وتربيتهم على التصوف بمقتضاه.
ثالثا، يساعد على القيام بهذا الدور أن الصوفي نفسه يتلقى ويمارس من الآداب ما يمكنه من القيام به خير قيام، إذ لابد لكل صوفي أن يصفي نفسه من نواقصها ويستكملها ليكون جديرا بحمل هذا الاسم المهم في عالم الإنسان والإنسانية،، فمن المعلوم أنه ينبغي عليه أن يتطبع تطبعا تاما وتحت إشراف شيخه بصفات تسمى المقامات أي المراحل التربوية.
إن ما عشناه من لحظات روحانية خالصة خلال هذا الملتقى، ليعد لبنة أخرى تضاف إلى تلك اللبنات المباركة التي دأبت الزاوية البصيرية على بنائها واحدة فواحدة، وإننا إذ نحمد الله العلي الكريم على هذا التوفيق والنجاح، فإننا نقدم خالص تشكراتنا إلى جميع الذين عملوا ونشطوا وثابروا لإعداد هذا الملتقى الرباني المبارك وأحسنوا وفادة إخوانهم القادمين من أفجاج شتى، ونسأل الله أن يكون هذا الملتقى فاتحة خير، وأن يجمع بكم الأمة الإسلامية على الخير والفلاح.