:)
هذا ويتضح لنا مما سبق: أن للصوم معنى فى الشريعة ومعنى فى الطريقة ومعنى فى الحقيقة.
فمعنى الصوم فى الشريعة: هو إمساك عن المفطر جميع نهار قابل للصوم بنية مخصوصة وشرائط مخصوصة.
ومعنى الصوم فى الطريقة: هو الإمساك عن كل ما نهى الله عنه كراهة أو تحريما.
وأما معنى الصوم فى الحقيقة فهو: الإمساك عن كل ما سوى الله تعالى وهذه الأنواع الثلاثة هى صوم العموم وصوم الخواص وصوم خواص الخواص
*والصوم فى منظور الصوفية الأولياء ينقسم إلى صوم الظاهر – وهو صوم ظاهر الشريعة المنضبط بالضوابط الفقهية – وصوم الباطن،
وهو الذى يزيد على صوم الظاهر بصوم سائر اللطائف الإنسانية،
يقول العارف الشيخ إسماعيل حقى قدس الله سره فى تفسيره.
والإشارة فى قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} أن الصوم كما يكون للظاهر يكون للباطن.
وباطن الخطاب يشير إلى أن صوم القلب والروح والسر للذين آمنوا، أى شهود أنوار الحضور مع الله.
فصوم القلب: صومه عن مشارب المعقولات.
وصوم الروح: عن مشاهدة الروحانيات،
وصوم السر: صونه عن شهود غير الله.
فمن أمسك عن المفطرات – أى الظاهرة من الطعام والشراب ونحوهما فنهاية صومه إذا هجم الليل.
ومن أمسك عن الأغنياء فنهاية صومه أن يشهد الحق وفى قوله عليه السلام "صوموا لرؤيته"
عند التحقيق: إنها عائدة إلى الحق، فينبغى أن يكون صوم العبد ظاهرا وباطنا، لرؤية الحق، وإفطاره بالرؤية،
قوله تعالى {كتب عليكم الصيام} أى على كل عضو فى الظاهر وعلى كل صفة فى الباطن.
آداب الصيام الظاهرة والباطنة
*لقد تقدم بنا جملة من الآداب الظاهرة للصيام فى نحو قوله صلى الله عليه وسلم "والصيام جنة؛ فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يسخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إنى امرؤ صائم..." ومعنى قوله جنة أى وقاية من النار.
وكذا فى قول سيدنا جابر رضى الله تعالى عنه "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء".
*والحقيقة الغائبة عن الكثيرين:
أن هذه الآداب تعد فى جملتها – من المنظور الشرعى – شروطا لصحة الصيام ولكماله كذلك،
فمثلا: الغيبة والنميمة من مفطرات الصائم ومن مبطلات الصيام وإن لم تصرح بها جل المتون الفقهية
والدليل على ذلك من السنة النبوية الشريفة ما أخرجه الإمام أحمد فى مسنده وغيره
عن عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن امرأتين صامتا، وأن رجلا قال: يا رسول الله، إن ههنا امرأتين قد صامتا،
وأنهما كادتا أن تموتا من العطش، فأعرض عنه أو سكت – ثم عاد، وأراه قال بالهاجرة،
قال: يا نبى الله: إنهما والله إنهما والله قد ماتتا أو كادتا أن تموتا!
قال: ادعهما، قال: فجاءنا، قال: فجئ بقدح أو عس
فقال لإحداهما قيئى، فقاءت قبيحا أو دما وصديدا ولحما، حتى قاءت نصف القدح، ثم قال للأخرى قيئى،
فقامت من قبح ودم وصديد ولحم عبيط وغيره حتى ملأت القدح، ثم قال:
إن هاتين صامتا عما أحل الله، وأفطرتا على ما حرم الله عز وجل عليهما،
جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يأكلان لحوم الناس) .
وهكذا يكون الصوم مدرسة أخلاقية تربى المسلم على مكارم الأخلاق، وحفظ الحقوق.
*وأما آداب الصيام الباطنة التى فقهها الصوفية الأولياء بالإضافة إلى الآداب الظاهرة
فقد ذكر العارف السراج الطوسى قدس الله سره إذ قال:
وصحة الصوم، وحسن أدب الصائم فى صومه: صحة مقاصده ومباينة شهواته وحفظ جوارحه، وصفاء مطعمه،
ورعاية قلبه، ودوام ذكره وقلة اهتمامه بالمضمون من رزقه
وقلة ملاحظته لصومه، ووجله من تقصيره، والاستعانة بالله تعالى على تأديته، فذلك أدب الصائم فى صومه).
*والإمام أبو طالب المكى رضوان الله عليه يذكر جملة من آداب الصيام الباطنة والظاهرة بقوله:
"اعلم وفقك الله تعالى أن الصوم عند الصائمين هو صوم القالب فأما صوم الخصوص من الموقنين:
فإن الصوم عندهم – أى مع صوم القالب – هو صوم القلب عن الهمم الدنية، والأفكار الدنيوية،
ثم صوم السمع والبصر واللسان عن تعدى الحدود، وصوم اليد والرجل عن البطش والسعى فى أسباب النهى!!
فمن صام بهذا الوصف فقد أدرك وقته فى جملة يومه،وصار له فى كل ساعة من نهاره وقت، وقد عمر يومه كله بالذكر،
ولمثل هذا قيل "نوم الصائم عبادة ونفسه تسبيح".
*ثم نجد حجة الإسلام الإمام الغزالى رضى الله تعالى عنه يقرر أن صوم الخصوص وهو صوم الصالحين
هو كف الجوارح عن الآثام، وتمامه بستة أمور هى المعانى الباطنة للصوم وآدابه وهى:
أولا: غض البصر وكفه عن الاتساع فى النظر إلى كل ما يذم ويكره وإلى كل ما يشغل القلب ويلهى عن ذكر الله عز وجل.
وثانيا: حفظ اللسان عن الهذيان، والكذب والغيبة والنميمة، والفحش والجفاء والخصومة والمراء، والزامه السكوت،
وشغله بذكر الله سبحانه وتلاوة القرآن. فهذا صوم اللسان.
وثالثا: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه، لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه.
ورابعا: كف بقية الجوارح عن الآثام، من اليد والرجل عن المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار،
فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال ثم الإفطار على الحرام.
وخامسا: أن لا يستنكر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ جوفه، حتى يستفاد من الصوم قهر عدو الله وكسر الشهوة والهوى لتقوى النفس على التقوى.
وسادسا: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقا مضطربا بين الخوف والرجاء،
إذ ليس يدرى أيقبل صومه فهو من المقربين أو يرد عليه فهو من الممقوتين
(جعلنا الله تعالى من المقربين).