بسم الله الرحمن الرحيم
********************
من دعامات التربية الإسلامية : صحبة الصالحين
*******************************************
صحبة الصالحين من أعظم وسائل الثبات على الإيمان . إنها مصدر من مصادر الطاقة الإيمانية التى تدفع المرء تجاه السلوك القويم وطاعة الله وحبه وابتغاء رضاه على من سواه ، ومن توفيق الله للإنسان أن يكون بين قوم صالحين إن أمر بمعروف آزروه وإن نهى عن منكر أعانوه وإن احتاج إلى شئ من الدنيا ساعدوه وإن مات دعوا له وشيعوه .
قال تعالى [ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينه الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا] الكهف 28 .
وعن أبى موسى الأشعري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [ إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً منتنة ] متفق عليه . وعن أبى سعيد الخدري رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال [ لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي ] رواه أبو داود .وإنما حذر من صحبة من ليس بتقي وزجر عن مخالطته ومؤاكلته لأن المطاعم توقع الألفة والمودة فى القلوب ، وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [ الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ] رواه الترمذي .
وقال أحد الصالحين : عليك بصحبة من تذكرك الله عز وجل رؤيته وتقع هيبته على باطنك ويزيد فى عملك منطقة ويزهدك فى الدنيا عمله ولاتعصى الله مادمت فى قربة يعظك بلسان فعله ولا يعظك بلسان قوله . وكان محمد بن واسع يقول : ما آسى من الدنيا إلا على ثلاث ، صاحب إذا اعوججت قومني ، وصلاة فى جماعة يحمل عني سهوها وأفوز بفضلها ، وقوت من الدنيا ليس لأحد فيه منة ولا لله عز وجل علي فيه تبعة . وروى عن عيس عليه السلام قوله : لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم قيل ومن الموتى ؟ قال المحبون للدنيا . وقال أيضاً : تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي وتقربوا إلى الله بالتباعد منهم والتمسوا رضا الله بسخطهم ، قالوا يا روح الله فمن نجالس ؟ قال : جالسوا من تذكركم الله رؤيته ومن يزيد فى عملكم كلامه ومن يرغبكم فى الآخرة عمله . وروى أيضاً أن الله أوحـى إلى موسى عليه السلام : يا ابن عمران كن يقظانا وارتد لنفسك إخوانا وكل خدن وصاحب لا يؤازرك على مسرتى فهو لك عدو .
وقال أحد الحكماء : مجالسة العارف الزاهد تدعو من ست إلى ست من الشك إلى اليقين ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الغفلة إلى الذكر ومن الرغبة فى الدنيا إلى الرغبة فى الآخرة ومن الكبر إلى التواضع ومن سوء الطوية إلى النصيحة . وقال الحسن البصرى : مصارمة الفاسق قربان إلى الله . وعن عون بن عبد الله قال : صحبت الأغنياء فلم يكن أحدا أطول غما منى إن رأيت أحداً أحسن ثيابا منى وأطيب ريحاً منى فصحبت الفقراء فاسترحت. وقال أيضا : جالسوا التوابين فإنهم أرق الناس قلوبا .
قال الغزالى في الإحياء موضحا منهج الإسلام في الصحبة :
فينبغي أن يكون فيمن تؤثر صحبته خمس خصال . أن يكون عاقلاً ، حسن الخلق ، غير فاسق ، ولا مبتدع ، ولا حريص على الدنيا .
أما العقل : فهو رأس المال وهو الأصل فلا خير فى صحبة الأحمق فعلى الوحشة والقطيعة ترجع عاقبتها وإن طالت قال على رضي الله عنه
فلا تصحب أخا الجهل وإياك وإيـاه فكم من جاهل أردى حليما حين آخاه
يقـاس المرء بالمرء إذا ما المرء ماشـاه وللشيء من الشيء مقاييــس وأشباه
وللقلب علــــى القلــــب دليـــل حيـــن يلقــــاه
كيف والأحمق قد يضرك وهو يريد نفعك وإعانتك من حيث لا يدرى ولذلك قيل : مقاطعـة الأحمق قربان إلى الله وقال الثوري : النظر إلى وجه الأحمق خطيئة مكتوبة .
وأما حسن الخلق : فلابد منه إذ رب عاقل يدرك الأشياء على ما هي عليه ولكن إذا غلبه غضب أو شهوة أو بخل أو جبن أطاع هواه وخالف ما هو معلوم عنده لعجزه عن قهر صفاته وتقويم أخلاقه فلا خير في صحبته . وحسن الخلق جمعه علقمة العطاردى فى وصيته لابنه حين حضرته الوفاة قال : بابني إذا عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا خدمته صانك وإن صحبته زانك وإن قعدت بك مؤنة مانك ، اصحب من إذا مددت يدك بخير مدها وإن رأى منك حسنة عدها وإن رأى سيئة سدها ، اصحب من إذا سألته أعطاك وإن سكت ابتداك وإن نزلت بك نازلة واساك ، اصحب من إذا قلت صدق قولك وإن حاولتما أمراً أمرك وإن تنازعتما آثرك .
وأما الفاسق : المصر على الفسق فلا فائدة فى صحبته لأن من يخاف الله لا يصر على كبير ومن لا يخاف الله لا تؤمن غائلته ولا يوثق بصداقته بل يتغير بتغير الأغراض قال تعالى [ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ] الكهف 28 .
وأما المبتدع : ففي صحبته خطر سراية البدعة وتعدى شؤمها إليه فالمبتدع مستحق للهجر والمقاطعة فكيف تؤثـر صحبته ؟! قال عمر رضي الله عنه : عليك بإخوان الصدق تعش فى أكنافهم فإنهم زينة فى الرخاء وعدة فى البلاء وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يغلبك منه واعتزل عدوك وأحذر صديقك إلا الأمين من القوم ولا أمين إلا من خشي الله فلا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره ولا تطلعه على سرك واستشر فى أمرك الذين يخشون الله تعالى .
وأما الحريص على الدنيا : فصحبته سم قاتل لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدرى صاحبه فمجالسة الحريص على الدنيا تحرك الحرص ومجالسة الزاهد تزهد فى الدنيا .
من لم يكن بين إخـوان يسر فإن أوقـاته نقص وخـسران
وأطيب الأرض ما للنفس فيه تقى سم الخياط مع الأحـباب ميدان
وأخبث الأرض ما للنفس فيه أذى خضر الجنان مع الأعداء نـيران
فصحبة الصالحين كلها خير لن يعدم المرء معهم أحد وجوه البر والذي يمكن أن يأخذ صوراً متعددة منها
النصيحة الصادقة
التي عز وجودها الآن بين الناس والتي يمكن أن تكون طوق نجاة فيتغير سلوك إنسان من الشر إلى الخير بالكلية. فعن أبى بكر بن عياش قال : قال لي رجل مرة وأنا شاب خلص رقبتك ما استطعت فى الدنيا من رق الآخرة فإن أسير الآخرة غير مفكوك أبداً قال أبو بكر : فما نسيتها أبداً . وكان يقوم الليل فى قباء صوف وسراويل وعكازه يضعها فى صدره فيتكئ عليها حين كبر فيحيى ليلته ويذكره حمل العصي بالسفر إلى الآخرة .
حملت العصا لا الضعف أوجب حملها على ولا أنى نحلت من الكبر
ولكنى ألـزمت نفسي حـملها لأعلمـها أن المقـيم على سـفر
وقال ابن المبارك : كنت أقدم المدينة فما يفيدني ويدلني على الشيوخ إلا الواقدى
القدوة النافعة
فالقدوة معلم يفيد بلا لسان بإذن الله ومرشد ناصح من غير بيان وهى مدرسة الإنسان العلمية التى يرسخ تعليمها فى النفوس ويعلق بالأفهام . والناس مائلون دائماً إلى أن يتعلموا بعيونهم أكثر مما يتعلمون بآذانهم والمرئي يؤثر أكثر من المقروء والمسموع وتعليم العمل أنفع من تعليم القول والإرشاد يرى الطريق ولكن القدوة البكماء تسيره فيه بإذن الله ومهما أوتى المعلم من الفصاحة والبراعة فى تهذيب النفوس فليس ببالغ ما يبلغه زميل له دونه فى المهارة وفوقه فى السيرة ولهذا قيل خير النصح افعل كما أفعل لا كما أقول ولما كانت غريزة التشبه أقوى فى الأحداث ينبغي أن ينشؤا فى بيئة صالحة لينشؤا نافعين فإنهم يتشبهون ويتمثلون بمن حولهم قال الله تعالى عن بلقيس [ وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين ] النمل 43 .
وعن نهشل بن كثير عن أبيه قال : أدخل الشافعي يوماً إلى بعض حجر هارون الرشيد ليستأذن له ومعه سراج الخادم فأقعده عند أبى الصمد مؤدب أولاد هارون الرشيد فقال سراج للشافعي : يا أبا عبد الله هؤلاء أولاد أمير المؤمنين وهذا مؤدبهم فلو أوصيته بهم فأقبل عليه فقال: ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاحك نفسك فإن أعينهم معقودة بعينك فالحسن عندهم ما تستحسنه والقبيح عندهم ما تكرهه ، علمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه ولا تتركهم منه فيهجروه ثم روهم من الشعر أعفه ومن الحديث أشرفه ولاتخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه فإن ازدحام الكلام فى السمع مضلة للفهم .
الدفعات الإيمانية
فأهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة وأكثرهم لك معونة إن نسيت ذكروك وإن ذكرت أعانوك قوالين بحق قوامين بأمر الله .قال البخاري ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند ابن المدينى ، وقيل للبخاري ما تشتهى ؟ قال أن أقدم العراق وعلى بن المدينى حي فأجالسه . وكان ابن المبارك رحمه الله كثير الجلوس فى بيته فقيل له ألا تستوحش فقال كيف استوحش وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وكان الربيع بن خثيم يدخل على ابن مسعود من غير إذن فإذا صار عنده لم يؤذن لأحد بالدخول عليه حتى يخرج الربيع وكان ابن مسعود يرى من صفاء نفس الربيع وإخلاص قلبه وإحسان عبادته ما يملأ فؤاده أسى على تأخر زمانه عن النبي صلوات الله عليه وحرمانه من صحبته وكان يقول له ( يا أبا يزيد ما رأيتك مرة إلا ذكرت المخبتين ولو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك )
الاستفادة من نور العلم
أسلم حكيم من أهل الكتاب بسبب مطالعته كتاب [ المبسوط ] لمحمد بن الحسن وقال هذا كتاب محمدكم الأصغر فكيف كتاب محمدكم الأكبر ؟ ، وقال أحمد بن حنبل : السماع من يحيى بن معين شفاء لما فى الصدور . وقال ابن المبارك : لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان كنت كسائر الناس . وقال الشافعي : لولا شعبه بن الحجاج ما عرف الحديث بالعراق .
المعونة على طاعة الله
قال أبو يوسف تلميذ الإمام أبو حنيفة :-
كنت أطلب الحديث والفقه وأنا مقل رث الحال فجاء أبى يوماً وأنا عند أبى حنيفة فانصرفت معه فقال بابني لا تمدن رجلك مع أبى حنيفة فإن أبا حنيفة خبزه مشوي وأنت تحتاج إلى المعاش فقصرت عن كثير من الطلب وآثرت طاعة أبى فتفقدني أبو حنيفة وسأل عنى فجعلت أتعاهد مجلسه فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه قال لي : ما شغلك عنا ؟ قلت الشغل بالمعاش وطاعة والدي فجلست فلما انصرف الناس دفع إلىّ صره وقال استمتع بهذه فنظرت فإذا فيها مائة درهم فقال لي : الزم الحلقة وإذا نفدت فأعلمني فلزمت الحلقة فلما مضت مدة يسيرة دفع إلى مائة أخرى ثم كان يتعهدني وما أعلمته بخلة قط ولا أخبرته بنفاد شئ ما . وكان كأنه يخبر بنفاذها حتى استغنيت وتمولت فلزمت مجلسه حتى بلغت حاجتي وفتح الله لي ببركته وحسن نيته ما فتح من العلم والمال فأحسن الله عنى مكافأته وغفر له .
ولما أحضر أسد بن الفرات عند محمد بن الحسن الشيباني قال له : إني غريب قليل النفقة والسماع منك نذر والطلبة عندك كثير فما حيلتي ؟ فقال له محمد بن الحسن : اسمع مع العراقيين بالنهار وقد جعلت لك الليل وحدك فتبيت عندي وأسمعك قال أسد : وكنت أبيت عنده وينزل إلىّ ويجعل بين يديه قدحاً فيه الماء ثم يأخذ فى القراءة فإذا طال الليل ونعست ملأ يده ونضح وجهي بالماء فأنتبه فكان ذلك دأبه ودأبي حتى أتيت على ما أريد من السماع عليه وكان محمد بن الحسن يتعهده بالنفقة حين علم أن نفقته نفذت وأعطاه مرة ثمانين ديناراً حين رآه يشرب من ماء السبيل .
المصدر)( من مقالات\\\ الدكتور سعد خالد النجار )( جزاه الله ألف خير